كنتُ في حداثتي أتردد بين الفينة والفينة الأخرى على حلقات الذكر والعلم في بعض المساجد المنتشرة في قريتنا على اعتبار أنه لا توجد حلقات ذكر وعلم وثقافة إلا في المساجد,وكانت تعلقُ بذهني بعض القصص الدينية وخصوصا الإسرائيليات المتحقق من صحتها بالسند الصحيح والمتواتر والقصص الواردة في تفسيرات ابن كثير الطويلة والمتعددة,وذات مرة روى رجلٌ من أهل الدعوة إلى الله, والناسُ حوله مجتمعون بشكل دائري وكأنهم يلتئمون على مائدة طعام كبيرة,والشيخ يروي وهو متوسط في وسط الدائرة ببطء شديد قصة جميلة عن سيدنا موسى والرجل الفقير الذي غضب من موسى بعد أن قال له موسى بأن الله لن يغير حاله ولن يغنه من فضله إلا بشيء كان قد كتبه له,وبأن رزق الإنسان مكتوب ومعلوم ولو كان لك في ذاك المكان شربة ماء فإنك لن تموت ولن تقبض روحك إلا بعد أن تشربها وترتوي منها وإن كان لك في هذه الدنيا ذرة من هواء أو نفحة من الأكسجين فإنك لن تموت حتى تأخذ حقك الذي كتبه الله لك وعليه,وكما جاء في الحديث بما معناه:لو اجتمع الإنس والجن على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء كان قد كتبه الله لك ولو اجتمع كل أهل الأرض والإنس والجن على أن ينفعوك فلن ينفعوك إلا بشيء كان قد كتبه الله لك,رفعت الأقلام وجفت الصحف, والحكاية بدأت عندما شكا الرجل لموسى عليه السلام بؤس حاله وفقره فأوصل سيدنا موسى عليه السلام إلى الرجل رسالة من السماء مفادها بأنه أخذ نصيبه من الدنيا وبأن رزقه مكتوب وأجله مكتوب في كتابٍ لا يظل فيه رب موسى ولا ينسى ,والقصة متعلقة بالرزق, والمهم في الموضوع أن الرجل قرر أن يهاجر من الأرض التي يقيم فيها سيدنا موسى عليه السلام وأن يفر أيضاً من الله ومن الصالحين قائلا:لن أبرح مكانا به موسى بن عمران وبمعنى آخر قال:لن أجلس في أرض يمشي فيها موسى بن عمران عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم, ولكن أين المفرُ من ألله ؟وقد أعد الرجل متاعه وحمله على دابته وسار بمعية زوجته وأولاده وكانت زوجته في الأسابيع الأخيرة من الحمل والولادة أو قل أنها كانت في الأيام الأخيرة,وكان الرجل يسير بخطوات مملة وبطيئة ومخذولا ومنتكسا وحزينا, وأثناء المسير جاء المخاض إلى زوجته فأوى هو وإياها في أحد المُغر أي الكهوف المتصدعة والمتشققة عن الجبال وجلس يرقب زوجته وهي تقاسي من آلام الولادة بينما هو بقي جالسا يلعن بنفسه وبحظه ويلعن باليوم الذي جاء فيه إلى هذه الدنيا على عادة بعض الناس في هذا الزمان,وكانت زوجته تتوجع من مخاض الولادة وكان أبناءه يتوجعون من آلام الجوع,وكانت الزوجة تنظر إلى زوجها وهو جالس لا يتحرك ولا ينبس ببنت شفا,ترقبه مرة بعينيها ومرة بأذنيها لتسمع منه كلمة واحدة ولكن هيهات أن ينطق الرجل بأي كلمة,لقد استسلم لليأس واليأس استسلم لزوجته,فصاحت بوجهه قائلة قم يا رجل وأشعل لنا النار بدل أن تبقى أمامي بهذه الهيئة المزرية مرة تتكأ على هذا الجنب ومرة على ذاك الجنب حتى ملت الأرضُ من مكوثك وجلوسك عليها,إن أولادك قد ملوا منك ومن صمتك فافعل لنا شيئا مفيدا, فقام الرجل وخرج من المغارة ليبحث فيها عن الحطب(الأخشاب) فاقتلع بعض النباتات التي لها سيقان عريضة وذهب ليشعل النار,ومن ثم عاد ليقتلع بعض النباتات وأثناء شده لنبتة كبيرة يريد اجتثاثها من الأرض لمح بريقا متلألئً وحين وضع يديه عليه وجد أنه (ذهب صافي) فعاد إلى زوجته فوجدها قد وضعت غلاما فقال لها:انظري ماذا وجدت!! وجدت صندوقا من الذهب,يا لقدرة ألله أتاني اليوم ولدا وصندوقا من الذهب,إن ألله أغناني من فضله وسأعود حالا إلى موسى بن عمران وأثبت له بأنه ليس نبيا إذ كيف يقول بأن الله لن يرزقني مدعيا أن كلامه هذا من عند الله.
وعاد الرجل إلى المدينة يسعى بين ظهرانيها مفتشا عن موسى عليه السلام حتى وجده تحت شجرة يتعبد لله,فاقترب منه الرجل وقال:يا موسى أنت قلت بأن الله لن يرزقني وبأنني سأعيشُ فقيرا وأموتُ فقيرا,ولكن ما رأيك بأنني وجدت صندوقا من الذهب الخالص, فتبسم موسى ابتسامة خفيفة ورفع رأسه إلى السماء وذهب ليكلم الله ويسأله عن هذا الرجل,فقال الله لموسى عليه السلام:نعم,عاش هذا الرجل فقيرا وسيموت فقيرا,والصندوق الذي وجده ليس له بل هي رزقُ المولود الذي أنجبته زوجته في تلك الليلة,وذهل الرجل وركع ساجدا لله,وحين عاد إلى زوجته قضى معها يوما أو يومين وقُبضت روحه,فعاش كما أخبر الله عنه فقيرا ومات فقيرا ولم يستمتع بما ظن أنه رزقٌ له,(رزقكم في السماء وما توعدون) وكما قالت لي جدتي:حوش حوش غير رزقك ما بتحوش,وكما قال الشاعر:
لا تكن للعيش مجروح الفؤاد
إنما الرزق على رب العبادِ
ملاحظة الفقير هو فقير العلم والدين ولا تبالو في رزق المال لان الرزق من رب العبادان الله يرزق من يشاء دون حساب