| الفارابي - كتاب الحروف | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 8:52 pm | |
| . (85) وينبغي أن تعلم أنّ هذه اللفظة إذا استُعملت في العلوم النظريّة التي بالعربيّة مكان " هست " بالفارسيّة فينبغي أن لا يخيَّل معنى الاشتقاق ولا أنّه كائن عن إنسان إلى آخر، بل تُستعمَل على أنّها لفظة شكلها شكل مشتقّ من غير أن تدلّ على ما يدلّ عليه المشتقّ، بل أنّ معناه معنى مثال أوّل غير دالّ على موضوع أصلا ولا على مفعول تعدّى إليه فعل فاعل، بل يُستعمَل في العربيّة دالاّ على ما تدلّ عليه " هست " في الفارسيّة و " استين " في اليونانيّة. وتُسعمَل على مثال ما نستعمل قولنا " شيء ". فإنّ لفظة الشيء إذا كانت مثالا أوّلا لم يُفهَم منه موضوع ولا فُهم أنّه كائن عن إنسان إلى آخر، بل إنّما يُفهَم منه ما يعمّ ما يدلّ عليه المشتقّ والمثال الأوّل، وما هو كائن عن إنسان إلى آخر أو غير كائن. وتُستعمَل لفظة الوجود مصدرا، لكن ينبغي أن يُتحرَّز من أن يُتخيَّل أنّ معناه هو كائن عن إنسان إلى آخر - وهو ما كان هذا المصدر يدلّ عليه عند جمهور العرب من أوّل ما وُضع - ولكن يُستعمَل على مثال ما نستعمل قولنا في العربيّة " الجمود " وأشباه ذلك ما بِنْيَته بنية الوجود في العربيّة ممّا ليس يدلّ على كونه عن إنسان إلى آخر. (86) ولأنّ هذه اللفظة بحيث ما هي عربيّة وبِنْيَتها عندهم هذه البنية صارت مغلطة جدّا، رأى قوم أن يتجنّبوا استعمالها واستعملوا مكانها قولنا " هو " ومكان الوجودِ " الهُوّية ". ولأنّ لفظة " هو " ليست باسم ولا كلمة في العربيّة. ولذلك لا يمكن فيها أن نعمل منها مصدرا أصلا، وكان يُحتاج في الدلالة على هذه المعاني التي يُلتمَس أن يُدَلّ عليها في العلوم النظريّة إلى اسم، وكان يُحتاج إلى أن يُعمَل منه مثل " الرجل " و " الرجوليّة " و " الإنسان " و " الإنسانيّة "، رأى قوم أن يتجنّبوها ويستعملوا الموجود مكان " هو " والوجود مكان الهُويّة. وأمّا أنا فإنّي أرى أنّ الإنسان له أن يستعمل أيّهما شاء. ولكن إن يستعمل لفظة " هو " فينبغي أن يستعملها على أنّها اسم لا أداة - و " الهُويّة "، المصدر المعمول الآخر، جارٍ وإن لم يُستعمَل - تُركَّب مبنيّة في جميع الأمكنة على طرف واحد، على مثال ما توجد عليه كثير من الأسماء العربيّة التي تُركَّب مبنيّة على طرف واحد آخِر. وأمّا المصدر الكائن منها وهو " الهُويّة " فينبغي أن يُستعمَل اسما كاملا ويُستعمَل فيه الطرف الأوّل والأطراف الأخيرة كلّها. و إذا استُعملت لفظة الموجود استُعملت على أنّها مثال أوّل وإن كان شكلها شكل مشتقّ ولا يُفهَم منها ما تخيّله نظائرها من المشتقّات ولا من التي تُفهمها هذه اللفظة إذا استُعملت في الأمكنة التي يستعملها فيها جمهور العرب وعلى وضعها الأوّل، لا موضوعا ولا معنى في موضوع ولا أنّه كائن عن الإنسان إلى آخر، بل على العموم وكيف اتّفق، بل تُستعمَل منقولة عن تلك المعاني مجرَّدة عن التي توهمها هناك وتُستعمَل على مثال ما نستعمل قولنا " شيء ". (87) فنحن الآن نحصي معنى هذه اللفظة إذا استُعملت في العلوم النظريّة على النحو الذي ذكرناه أنّه ينبغي أن تُستعمَل عليه. . (88) الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولات - وهي التي تقال على المشار إليه - ، ويقال على كلّ مشار إليه، كان في موضوع أو لا في موضوع. والأفضل أن يقال إنّه اسم لجنس جنس من الأجناس العالية على أنّه ليست له دلالة على ذاته، ثمّ يقال على كلّ ما تحت كلّ واحد منها على أنّه اسم لجنسه العالي، ويقال على جميع أنواعه بتواطؤ - مثل اسم العين، فإنّه اسم لأنواع كثيرة ويقال عليها باشتراك -، ثمّ يقال على كلّ ما تحت نوع نوع بتواطؤ على أنّه اسم أوّل لذلك النوع، ثم لكلّ ما تحت ذلك النوع على أنّه يقال عليها بتواطؤ. وقد يمكن أن يقال إنّه اسم يقال باشتراك على العموم على جميع جنس جنس من الأجناس، ثمّ هو اسم لواحد واحد ممّا تحته يقال عليه بالخصوص. وقد تلزم هنا شنعة مّا، فلذلك آثرنا ذلك الأوّل، إلاّ أن يكون بنوع من الإضافة. وقد يقال على كلّ قضيّة كان المفهوم منها هو بعينه خارج النفس كما فُهم، وبالجملة على كلّ متصوَّر ومتخيَّل في النفس وعلى كلّ معقول كان خارج النفس وهو بعينه كما هو في النفس. وهذا معنى أنّه صادق، فإنّ الصادق والموجود مترادفان. وقد يقال على الشيء " إنّه موجود " ويُعنى به أنّه منحاز بماهيّة مّا خارج النفس سواء تُصُوِّر في النفس أو لم يُتصوَّر. والماهيّة والذات قد تكون منقسمة وقد تكون غير منقسمة. فما كانت ماهيّته منقسمة فإنّ التي يقال إنّها ماهيّته ثلاثة، إحداها جملته التي هي غير ملخَّصة، والثانية الملخَّصة بأجزائها التي بها قوامها، والثالثة جزء جزء من أجزاء الجملة كلّ واحد بجملته على حياله. فجملته ما دلّ عليه اسمه، والملخَّصة بأجزائها ما دلّ عليه حدّه، وجزء جزء من أجزائها جنس وفصل كلّ واحد على حياله أو مادّة وصورة كلُّ واحدة على حيالها. وكلّ واحدة من هذه الثلاثة يسمّى الماهيّة والذات. وبالجملة فإنّما يسمّى الماهيّة كلّ ما للشيء، صحّ أن يجاب به في جواب " ماهو هذا الشيء " أو في جواب المسؤول عنه بعلامة مّا أخرى
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 8:54 pm | |
| - فإنّ كلّ مسؤول عنه " ماهو " فهو معلوم بعلامة ليست هي ذاته ولا ماهيّته المطلوبة فيه بحرف ما. فقد يجاب عنه بجنسه، وقد يجاب عنه بفصله أو بمادّته أو بصورته، وقد يجاب عنه بحدّه، وكلّ واحد منها فهو ماهيّته المنقسمة. وتنقسم إلى أجزاء. فإن كان ماهيّة كلّ واحد من أجزائها منقسمة، فتنقسم أيضا إلى أجزاء، حتىّ تنقسم إلى أجزاء ليس واحد منها ينقسم، فتكون ماهيّة كلّ واحد منها غير منقسمة. (89) فالموجود إذن يقال على ثلاثة معان: على المقولات كلّها، وعلى ما يقال عليه الصادق، وعلى ما هو منحاز بماهيّة مّا خارج النفس تُصُوِّرت أو لم تُتصوَّر. وأمّا ما ينقسم حتّى تكون له جملة وملخَّص تلك الجملة فإنّ الموجود والوجود يختلفان فيه، فيكون الموجود هو بالجملة - وهي ذات الماهيّة - والوجود هو ماهيّة ذلك الشيء الملخَّصة أو جزء جزء من أجزاء الجملة إمّا جنسه وإمّا فصله، وفصله إذ كان أخصّ به فهو أحرى أن يكون وجوده الذي يخصّه. ووجود ما هو صادق فهو إضافة مّا للمعقولات إلى ما هو خارج النفس. والموصوف بجنس جنس من الأجناس العالية فوجوده هو جنسه، وأيضا هو داخل في معنى الوجود الذي هو الماهيّة أو جزء ماهيّة، فإنّ جنسه هو جزء ماهيّته وهو ماهيّة مّا به، وإنّما يكون ذلك في ماماهيّته منقسمة. وكلّ ما كانت ماهيّته غير منقسمة فهو إمّا أن يكون موجودا لا يوجد وإمّا أن يكون معنى وجوده وأنّه موجود شيئا واحدا، ويكون أنّه وجود وأنّه موجود لا يوجد وإمّا أن يكون معنى وجوده وأنّه موجود شيئا واحدا، ويكون أنّه وجود وأنّه موجود معنى واحدا بعينه. فالموجود المقول على جنس جنس من الأحناس العالية فإنّ الوجود والموجود فيها معنى واحد بعينه. وكذلك ما ليس في موضوع ولا موضوع لشيء أصلا فإنّه أبدا بسيط الماهيّة، فإنّ وجوده وأنّه موجود شيء واحد بعينه. (90) وظاهرأنّ كلّ واحد من المقولات التي تقال على مشار إليه هي منحازة بماهيّة مّا خارج النفس من قبل أن تُعقَل منقسمة أو غير منقسمة. وهي مع ذلك صادقة بعد أن تُعقَل، إذ كانت إذا عُقلت وتُصُوِّرت تكون معقولات ما هو خارج النفس. فيجتمع فيها أنّها موجودات بتينك الجهتين الأخرتين. فيحصل أن تكون ترتقي معاني الموجود إلى معنيين: إلى أنّه صادق وإلى أنّ له ماهيّة مّا خارج النفس. (91) وظاهر أنّ كلّ صادق فهو منحاز بماهيّة مّا خارج النفس. والمنحاز بماهيّة مّا خارج النفس هو أعمّ من الصادق. أنّ ما هو منحاز بماهيّة مّا خارج النفس إنّما يصير صادقا إذا حصل متصوَّرا في النفس، وهو من قبل أن يُتصوَّر منحاز بماهيّة مّا خارج النفس وليس يُعَدّ صادقا - وإنّما معنى الصادق هو أن يكون المتصوَّر هو بعينه خارج النفس كما تُصُوِّر - وإنّما يحصل الصدق في المتصوَّر بإضافته إلى خارج النفس، وكذلك الكذب فيه. فالصادق بما هو صادق هو بالإضافة إلى منحاز بماهيّة مّا خارج النفس. والمنحاز بماهيّة مّا على الإطلاق من غير أن يُشرَط فيه هو أعمّ من الذي هو منحاز بماهيّة مّاخارج النفس. فإنّ الشيء قد ينحاز بماهيّة متصوَّرة فقط ولا تكون هي بعينها خارج النفس، أو كانت منها أشياء معقولة متصوَّرة ومتخيَّلة ليست بصادقة، كقولنا " القُطر مشارك للضِلع " وكقولنا " الخلاء " فإنّ الخلاء له ماهيّة مّا، وذلك أنّا قد نسأل عن الخلاء " ما هو " ويجاب فيه بما يليق أن يجاب في جواب " ما هو الخلاء " ويكون ذلك قولا شارحا لاسمه وما يشرح الاسم فهو ماهيّة مّا وليست خارج النفس. (92) وينبغي أن تعلم ما هي الأشياء التي لها ماهيّات خارج النفس، فتحصل إذن على المعقولات، وعلى ما عليها تقال، وعلى ماعنها استفادت ماهيّاتها وهي مادّتها. فلذلك إذا قلنا في الشيء " إنّه موجود " و " هو موجود "
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 8:56 pm | |
| فينبغي أن يُسأل القائل لذلك أيّ المعنيين عنى، هل أراد أنّ ما يُعقَل منه صادق أو أراد أنّ له ماهيّة مّا خارج النفس بوجه مّا من الوجوه. وما له ماهيّة مّاخارج النفس، وإن كان عامّا، فإنّه يقال بالتقديم والتأخير على ترتيب. وهو أنّ ما كان أكمل ماهيّة ومستغنيا في أن يحصل ماهيّة عن باقيها، وباقيها فيحتاج في أن يحصل ماهيّة وفي أن يُعقَل إلى هذه المقولة، هي أحرى أن تكون وأن يقال فيها إنّها موجودة من باقيها. ثمّ ما كان من هذه المقولة محتاج في أن يحصل ماهيّة إلى فصل أو جنس من هذه المقولة كان أنقص ماهيّة من ذلك الذي هو من هذه المقولة سبب لأن يحصل ماهيّة. فما كان ممّا في هذه المقولة سببا لأن تحصل به ماهيّة شيء منها كان أكمل ماهيّة وأحرى أن يسمّى موجودا. ولا يزال هكذا يرتقي في هذه المقولة إلى الأكمل فالأكمل ماهيّة إلى أن يحصل فيها ما هو أكمل ماهيّة ولا يوجد في هذه المقولة ما هو أكمل منها، كان ذلك واحدا أو أ كثر من واحد. فيكون ذلك الواحد وتلك الأشياء هي أحرى أن يقال " إنّه موجود " من الباقية. فإن صودف شيء خارج عن هذه المقولات كلّها هو المسبّب في أن يحصل ماهيّة ما هو أقدم شيء في هذه المقولة، كان ذلك هو السبب في ماهيّة باقي ما في هذه المقولات، ويكون ما في هذه المقولة هو السبب في ماهيّة باقي المقولات الأخر. فتكون الموجودات التي يُعنى بالموجود فيها ما له ماهيّة خارج النفس مرتَّبة بهذا الترتيب. (93) والموجود الذي يُعنى به ما له ماهيّة مّا خارج النفس، منه موجود بالقوّة ومنه موجود بالفعل . وما هو موجود بالفعل ضربان، صرب غير ممكن أن لا يكون بالفعل ولا في وقت من الأوقات أصلا - فهو دائمابالفعل - ومنه ما قد كان لا بالفعل، وهو الآن بالفعل، وقد كان قبل أن يكون بالفعلوقد كان موجودا بالقوّة. ومعنى قولنا " موجود بالقوّة " أنّه مسدَّد ومعَدّ لأن يحصل بالفعل. ومل هو مسدَّد ومعَدّ لأن يحصل بالفعل منه ما هو مسدَّد ومعَدّ لأن يحصل بالفعل فقط من غير أن يكون تسديده واستعداده لذلك استعدادالأن لا يحصل بالفعل أو لأن يحصل بالفعل ولأن لا يحصل بالفعل، بل يكون استعداده استعدادا مسدَّدا نحو الفعل فقط، ومنه ما هو مسدَّد ومستعدّ أن يحصل بالفعل أو لا يحصل. فالموجود بالقوّة فإنّ قوّته تنقسم إلى هذين. ولا فرق بين أن نقول " القوّة " أو " الإمكان ". فإنّ ما هو موجود بالقوّة منه ما هو بقوّته وإمكانه مسدَّد نحو أن يحصل بالفعل فقط، ومنه ماهو مسدَّد أن يحصل بالفعل وألاّ يحصل، فيكون مسدَّدا لمتقابلين. وما هو مسدَّد في ذاته لأن يحصل بالفعل فقط فإنّه ضربان، ضرب معرَّض للعوائق الواردة من خارج، وضرب لا عائق له أصلا، وما لا عائق له أصلا من خارج من هذين فإنّه سيكون لا محالة يحصل بالفعل. مثل إحراق النار للحَلْفاء التي تماسّها، فإنّ النار فيها قوّة الإحراق فقط وليست هي مسدَّدة لأن تحرق ولا تحرق، ولكن لمّا كانت معرَّضة للعوائق عن الإحراق صارت ربّما أحرقت وربّما لم تحرق. وأمّا كسوف القمر فإنّ قوّته التي هو بها مستعدّ لأنينكسف، هو بها مسدَّد لأن ينكسف عند الاستقبال في العقدة، وغير معرَّض لعائق من خارج أصلا. فلذلك إذا قابل الشمس عند إحدى العقدتين انكسف لا محالة. وهذه أشياء قد لُخّصت في الفصل الثالث من كتاب " باري ارميناس ". (94) وما هو موجود بالقوّة لم تجري عادة الجمهور فيه أن يسمّوه موجودا بل يسمّوه غير موجود ما داموا يعبّرون عنه بلفظ الموجود. وإنّما يسمّون بلفظ الموجود ما كانت ماهيّته التي بالفعل صادقة - ولا يسمّون ما كانت ماهيّته صادقة وماهيّته بعد بالقوّة موجودا - فإنّ هذا هو الأسبق إلى نفوسهم من لفظ الموجود . فأمّا إذا نطقوا عن أنواع ما يقال فيه على العموم إنّه موجود جعلوا العبارة عنه حين ما هو بعد بالقوّة باللفظة التي يعبّرون بها عنه وهو بالفعل. وذلك مثل " الضارب " و " القاتل " و " المضروب " و " المبنيّ " و " المقتول ". فإنّهم يقولون " فلان مضروب - أو مقتول - لا محالة "، وذلك من قبل أن يُضرَب، إذا كان مستعدّا لأن يُضرَب في المستقبل
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 8:57 pm | |
| . وكذلك يقولون " ما ببلاد الهند من الأشجار مرئيّة " يعنون به معرضة لأن تُرى. وكذلك يقولون " إنّ الإنسان ميّت " أو " زيد ميّت " يعنون به معرض للموت. وذلك من قبل أن يموت. فيجعلون العبارة في جزئيّات ما هو بالقوّة حينا وبالفعل حينا بألفاظ واحدة بأعيانها، ويجعلون اللفظ الدالّ على ما هو بعد بالقوّة هو بعينه اللفظ الدالّ على ما هو منه حاصل بالفعل. فاتّبع الفلاسفة في لفظةالموجود المقولة على جميع هذه العموم حذوهم في جزئيّات ما يقال عليه الموجود بأن سمّوا ما هو منه بعد القوّة باسم ما هو منه بالفعل، فسمّوه الموجود في الوقتين جميعا، وفصلوا بينهما بما زادوه من شريطة القوّة والفعل، فقالوا " موجود بالقوّة " و " موجود بالفعل ". وقد يقال " إنّه موجود لا بالقوّة " وقد يقال " إنّه غير موجود بالقوّة "، فإليك أن تنطق عنه بأيّ العبارتين شئت. وكذلك فيما هو موجود بالقوّة، إن شئتَ قلتَ فيه " إنّه موجود لا بالفعل " وإن شئتَ قلتَ " إنّه غير موجود بالعفل ".(95) و " غير الموجود " و" ما ليس بموجود " تقال على نقيض ما هو موجود، وهو ما ليست ماهيّته خارج النفس. وذلك يُستعمَل على ما لا ماهيّة له ولا بوجه من الوجوه أصلا لا خارج النفس ولا في النفس؛ وعلى ما له ماهيّة متصوَّرة في النفس لكنها خارج النفس، وهو الكاذب، فإنّ الكاذب قد يقال " إنّه غير موجود ". وذلك أنّ ما له ماهيّة خارج النفس سَلْبه قولنا " ليست له ماهيّة خارج النفس "، وهذا مشتمل على ما له ماهيّة في النفس فقط من غير أن يكون خارج النفس وما ليست له ماهيّة خارج النفس ولا في النفس. و " غير الموجود " انّما يدلّ على هذاالسلب، كما أنّ قولنا " ليس يوجد عادلا "ولا يصدق على ما يمكن فيه وعلى ما لا يمكن فيه العدل. وما ليس بصادق فهو أعمّ من الكاذب. وذلك أنّ الذي لا ماهيّة له أصلا ليس بصادق ولا كاذب - لأنّه لا اسم له ولا قول يدلّ عليه أصلا - ولا بجنس ولا بفصل ولا يُتصوَّر ولا يُتخيَّل ولا تكون عنه مسألة أصلا. وأمّا ما كان ليس بصادق وهو كاذب فإنّه يُعقَل أو يُتصوَّر أو يُتخيَّل وله ماهيّة. فإنّ للكاذب ماهيّة مّا وله اسم وقد يُسأل عنه " ما هو ". مثل الخلاء، فإنّه قد يُسأل عنه " ما هو " فيقال " هو مكان لا جسم فيه أصلا " و " يمكن أن يكون فيه جسم " أو غير ذينك ممّا يجاب به عن الخلاء وعن أشبهه. فإنّ هذا وما أشبهه هو كاذب وهو غير موجود. وإنّما تكون هذه مركَّبة من أشياء لكلّ واحد منها على انفراده ماهيّة صادقة. والذي له ماهيّة خارج النفس ليس يقال فيه " إنّه صادق " ما لم يُتصوَّر. فإنّه " غير موجود " إذن بمعنَيين مختلفَين، فإنّ الذي ينفي " غيرُ " ليس هو المعنى " يوجد " إلاّ باشتراك الاسم. وهذا شيء يعرض لكلّ شيئين اشتركا في اسم واحد وكان الصادق هو نفي أحدهما عن أمر مّا وإيجاب الآخر، مثل " إنّ العضو الذي به نبصر هو عين وليس بعين "، وكذلك ما أشبهه. إلاّ أنّ الصادق إنّما يقال فيه " إنّه موجود " لأجل إضافته إلى الذي له ماهيّة خارج النفس. فهو إذن بالإضافة إلى المعنى الآخر الذي يقال عليه الموجود. فأقدم ما يقال عليه الموجود هو هذا المعنى. فإن قال فيه قائل " إنّه غير موجود " يعني أنّه غير صادق، أي كان لم يُتصوَّر بعد، فما ينبغي أن يُستنكَر، فإنّه ليس بممتنع. (96) والأسبق إلى النفوس في بادئ الرأي من قولنا " غير موجود " ما لا ماهيّة له أصلا ولا بوجه من الوجوه. ولذلك لمّا كان لا ماهيّة له أصلا ولا بوجه من الوجوه، وكان أن يُعلَم عند الجمهور هو أن يُحَسّ، صار ما كان غير محسوس عندهم في حدّ ما ليس بموجود. ولذلك لمّاصار أيضا ما كان أخفى في الحسّ عندهم من الأجسام مثل الهباء والهواء وما أشبهه في حدّ ما هو عندهم غير موجود، صاروا يقولون في ما تلف وبطل " إنّه هباء " و " صار هباء " و " ريحا ". ولذلك يسمّون القول الكاذب أيضا ريحا، إذ كان معناه يقال فيه إنّه غير موجود. فمن ههنا يتبيّن أنّهم يقولون على الكاذب أيضا " غير موجود "، وإن لم يكن ذلك مشهورا في نطقهم، إذ كانوا يعبّرون عن الكاذب بالذي يعبّرون به عمّا ما لا ماهيّة له أصلا، فيقولون " إنّه ريح " كما يقولون فيما بطلت ماهيّته " إنّه صار ريحا ". (97) ولمّا كان الأقدمون من القدماء يعملون في الفلسفة على ما يُفهَم من الألفاظ في بادئ الرأي، وكان قولنا " غير موجود " يُفهَم عنه ببادئ الرأي ما ليست له ماهيّة أصلا، وكان ما هو غير موجود هكذا لا يمكن أن يصير موجودا وأن يحصل عنه موجود بالفعل، ورأواما يُحَسّ أشياء تحدث وتحصل بالفعل وكان ما يحدث يسبق إلى النفس إنّه يحدث عن غير موجود، وكان الأسبق إلى النفس عن غير الموجود أنّه لا ماهيّة له أصلا، لزم عندهم محال، إذ كان يلزم أن يحدث موجود عن غير موجود. فاعتقد بعضهم أنّه غير موجود. ورأى بعضهم أيضا أنّ هذا يلزم عنه أيضا محال، إذ كان يلزم أن يكون ما هو الآن موجود حادث الوجود قد كان موجودا قبل حدوثه. فأبطلوا الكون والحدوث. وقالوا إنّ الأشياء كلّها لم تزل ولا تزال وليس فيها شيء يحدث ويبطل. وأبطلوا أن يتغيّر شيء أصلا بوجه من وجوه التغيّر، قالوا إنّه لا ينبغي أن يُعمَل على ما يظهر للحسّ، وذلك مثل قول ماليسس. وهذا المعنى فهم فاسد من قولنا " غير موجود ". فقال: كلّ ما سوى الموجود فهو غير موجود، وما هو غير موجود فليس بشيء
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 8:59 pm | |
| وإنّما حكم على ماهو لا موجود أنّه ليس بشيء، إذ فهم عن ما هو لا موجود ما لا ماهيّة له أصلا. (98) ولمّا لم يتميّز أيضا للطبيعيّين الأقدمين فرق ما بين الموجود بالقوّة والموجود بالفعل كما تبيّن للإلاهييّن، شنع عندهم أن يقال في شيء واحد " إنّه موجود " و " إنّه غير موجود "، إذ كانوا يفهمون عن " الموجود " ما له ماهيّة بالفعل فقط - فإنّ هذا هو أسبق إلى النفوس في بادئ الرأي - وعن " غير الموجود " ما لا ماهيّة له أصلا - وهذا أيضا هو الأسبق إلى النفوس في بادئ الرأي. فاعتقد كثير من المنطقيّين أن كلّ حادث الوجود حصل بالفعل فقد كان بالفعل قبل وجوده. فبعضهم قال إنّه كان متفرّقافاجتمع، وبعضهم قال كان مجتمعا مختلطا فافترق وتميّز بعضه عن بعض، وبعضهم قال إنّه كان عن لا موجود أصلا من كلّ الجهات. ثمّ أخذوا يحتالون في ما معنى أن يكون عن غير موجود أصلا ولا ماهيّة له أصلا. (99) و" الموجود بذاته " هو على عدد أقسام ما يقال " بذاته ". فمن ذلك ما ماهيّته مستغنية عن باقي المقولات ولا تحتاج إليه أن تتقوّم أو تحصل أو تُعقَل إليها، وتلك هي المشار إليه الذي لا في موضوع ثمّ ما يعرّف ما هو هذا المشار إليه، والمقابل لهذا هو الموجود في موضوع. ومنه ما ماهيّته مستغنية عن أن تحتاج إلى أن تتقوّم إلى نسبة بينه وبين غيره بوجه مّا من الوجوه، وهو الذي لا سبب أصلا لماهيّته في أن تحصل، والمقابل لهذا هو الموجود الذي له سبب مّا. وأمّا الموجود بذاته المقابل لما هو موجود بالعرض، فإنّه ليس يكون في ما يوصف بالموجود على الإطلاق وبالوجه الأعمّ. فإنّه ليس شيء ماهيّته بالعرض، بل إنّما يقال ذلك عند مقايسة الموجودات بعضها إلى بعض وعندما يضاف بعضها إلى بعض - أيّ إضافة كانت وأيّ نسبة كانت - مثل أن يكون أحدهما أو كلّ واحد منهما بالآخر أو عنه أو إليه أو منه أو معه أو عنده أو منسوبا إليه نسبة أخرى - أيّ نسبة كانت. فإنّه إذا كانت ماهيّة أحدهما أو كلّ واحد منهما هي ظان تكون له تلك النسبة إلى الآخر، قيل في كلّ واحد منهما " إنّه منسوب إلى الآخر بذاته ". مثل إن كانت ماهيّة شيء مّا أن يوصف بمحمول مّا فيه قيل في ذلك المحمول " إنّه محمول بذاته على ذلك الشيء " وقيل في ذلك الشيء " إنّه بذاته يوصف بذلكالمحمول ". كذلك إن كانت ماهيّة أمر أن يكون محمولا على موضوع قيل فيه " إنّه محمول بذاته على ذلك الموضوع " وقيل في ذلك الموضوع " إنّه بذاته يُحمَل عليه ذلك المحمول ". وكذلك إن كانت ماهيّة شيء مّا توجب دائما أو في أ كثر الأمر أن يوصف بأمر مّا قيل فيه " إنّه محمول عليه بذاته ". وكذلك إن كان شيء كائنا أو قوامه بأمر مّا كان سببا له. فإنّه إن كانت ماهيّته هي أن يكون عنه، أو ماهيّة ما هو سبب أن يكون عنه ذلك الشيء، قيل " إنّه له بذاته ". وإن لم يكن ذلك ولا في ماهيّة واحد منهما قيل " إنّه لذلك الأمر - أو فيه أو به أو عنه أو معه أو عنده - بالعرض ". (100) المقابل للموجود الذي يقال بالقياس إلى آخر هو " غير الموجود " الذي يقال بالقياس إلى آخر. فإنّا نقول " زيد غير موجود عمرا " و " الحائط غير موجود إنسانا " و " السرير غير موجود عن الطبيعة بل عن الصنعة "، نعني ليست ماهيّة السرير مستفادة عن الطبيعة. وكذلك في الباقي، نعني ما هو زيد ليست ماهيّة عمرو. (101) وقد يُستعمَل الموجود في شيء آخر خارج عن هذه التي ذكرناها. وهو أنّه يُستعمَل رابطا للمحمول مع الموضوع في الأقاويل الجازمة الموجبة. فهذه اللفظة ومعناها تربط المحمول بالموضوع وبه يحصل إيجاب شيء لشيء. وقد يحصل هذا الصنف من تركيب الموجودات بعضها إلى بعض، فإنّ الموجود يدلّ على الإيجاب و " غير الموجود " يدلّ على السَلْب. وليس يدلّفي مثل قولنا " زيد موجود عادلا " على أنّ ماهيّة أحدهما بالذات أو بالعرض، ولا أنّ ماهيّة أحدهما أو كلاهما الخارجة عن النفس هي أن توصف بالعادل. فإنّه قد يكون هذا التركيب في جواب ما ليست له الآن ماهيّة خارج النفس، فيصدق قولنا " اوميرس موجود شاعرا ". فيكون صادقا لأنّ ما يدلّ الموجود ههنا ليس هو الموجود الذي تحدّدت معانيه فيما تقدّم، بل هو لفظة ينطوي فيها موضوع لمحمول أو محمول لموضوع، وبالجملة شيئان رُكّبا هذا التركيب. وقد تنطوي فيها ما هيّاتها على أنّ لكلّ واحد عند الآخر هذه النسبة فقط. وهذه اللفظة في قوّتها ماهيّتا أمرين يضاف كلّ واحد منهما إلى الآخر هذه الإضافة
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 9:00 pm | |
|
ليس ماهيّاتهما اللتان يقال إنّهما خارج النفس، لكنّها ماهيّتاهما كيف اتّفقت من حيث هما مضافان هذه الإضافة التي يصير المؤلَّف منها قضيّة موجبة. فإنّ هذه اللفظة قد تُستعمَل فيما هي كاذبة وفيما هي صادقة وفيما لا ندري هل هي صادقة أو كاذبة. فإنّها إنّما تتضمّن ماهيّتهما على الإطلاق من حيث هما في النفس، سواء كانتا خارج النفس أو لم تكونا. وليس تتضمّن أيضا أمرين بأعيانهما، بل إنّما تتضمّن موضوعا لمحمول أو محمولا لموضوع. فلا فرق بين أن يُبتدَأ آ ب من الموضوع إلى المحمول أو من المحمول إلى الموضوع، فيقال " آ موجود ب " أو يقال " ب موجود آ ". و " غير الموجود " يدلّ على سَلْب محمول عن موضوع أو موضوع يُسلَب عنه محمول مّا. وليس للموجود منها معنى أخر غير هذا. (102) فلذلك لمّا ظنّ قوم أنّه يُعنى بالموجود ههنا ما له ماهيّة خارج النفس ظنّوا أنّ قولنا "زيد يوجد عادلا " يوجب أن يكون زيد موجود خارج النفس. وعلى هذا المثال ظنّوا السَلْب، كقولنا " زيد ليس يوجد عادلا ". فإنّهم زعموا أنّه رَفْع ماهيّة زيد من حيث هو عادل. وأنّ الإيجاب قد كان عندهم إثبات ماهيّة زيد من حيث هو عادل. فلذلك لا يصدق الإيجاب على زيد متى كان قد مات وبطل. وأخرون ظنّوا أنّه لا يصدق أن يقال " الإنسان موجود أبيض "، إذ ليست ماهيّة الإنسان أن يكون أبيض. وآخرون ظنّوا أن قولنا " الإنسان موجود حيوانا " كذب، إذ كان الحيوان قد يكون حمارا أو كلبا، وظنّوا انّ قولنا " الإنسان موجود حيوانا " يُعنى به أنّ الإنسان ماهيّته الحيوان الذي ينطوي فيه الحمار والكلب، فتكون ماهيّة الإنسان أن يكون حمارا أو كلبا، أو أن يكون الحيوان أيضا جزءامن حدّ الحمار وأن تكون ماهيّة الإنسان حماريّة ما، وقالوا بل الصادق أن يقال " الإنسان موجود إنسانا " و " العادل موجود عادلا ". ولم يعلموا أنّ الموجود ههنا إنّما استُعمل باشتراك، وأنّه إنّما تنطوي فيه بالقوّة ماهيّتان اثنتان من حيث هما متصوَّرتان لهما نسبة المحمول إلى موضوع والموضوع إلى المحمول فقط لا غير، وأنّه ليس يتضمّن إضافة ماهيّة خارج النفس إلى ماهيّة خارج النفس بل إضافة في النفس أحد طرفيها الموضوع والآخر المحمول، ولا يتضمّن أن تكون ماهيّة أحدهما أن توصف بذلك المحمول بل إنّما يتضمّن ما قلناه فقط. وإنّما يتضمّن إضافة مّا بها يصير أحد الأمرين خبرا والآخر مخبَرا عنه موضوعا لا غير (103) والمؤتلف من الشيئين اللذين يأتلف أحدهما إلى الآخر هذا الائتلاف هو القضيّة، وفيها يكون الصدق والكذب. فمنه موجبة ومنه سالبة. وكلّ واحد منهما إمّا أن يكون معنى الوجود الرابط فيهما بالقوّة فقط، وهي القضايا التي محمولاتها كَلِم، وإمّا أن يكون معنى الوجود الرابط فيهما بالفعل، وهي التي محمولاتها أسماء. ثمّ تنقسم هذه بما ينقسم الموجود على الإطلاق، فمنهاما فيه إيجاب هذا الموجود بالفعل دائما، ومنها ما فيه نفي هذا الموجود دائما، ومنها ما فيه هذا الوجود في وقت مّا وقد كان قبل ذلك بالقوّة. فما كان بالقوّة فهو ما دام بالقوّة يقال فيه " إنّه قضيّة ممكنة "، وإذا حصلت بالفعل فيها " قضيّة وجوديّة "؛ وما كان منها إيجاب هذا الوجود دائما قيل فيه " إنّه قضيّة موجبة ضروريّة "، وما كان في نفي هذا الوجود دائما قيل فيه " سالبة ضروريّة "؛ وسائر ما قلنا في كتاب " باري ارميناس " و كتاب " القياس ". فيكون منها ما هو " صادق ضروريّ " ومنها ماهو " كاذب ضروريّ " وهو المحال، و" كاذب وجوديّ " وهو الكاذب غير المحال، وما هو " صادق وجوديّ "، ثمّ ما هو " بالعرض " وما هو " بذاته " وما هو " أوّل " وما هو " ثان "، وسائر ما في كتاب " البرهان ". الفصل السادس عشر: الشيء (104) والشيء قد يقال على كلّ ما له ماهيّة مّا كيف كان، كان خارج النفس أو كان متصوَّرا على أيّ حهة كان، منقسمة أو غير منقسمة. فإنّا إذا قلنا " هذا شيء " فإنّا نعني به ما له ماهيّة مّا. فإنّ الموجود إنّما يقال على ما له ماهيّة خارج النفس ولا يقال على ما ماهيّة متصوَّرة فقط، فبهذا يكون الشيء أعمّ من الموجود. والموجود يقال على القضيّة الصادقة، والشيء لا يقال عليها. فإنّا لا نقول " هذه القضيّة شيء " ونحن نعني به أنّها صادقة،
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 9:01 pm | |
|
، بل إنّما نعني أنّ لها ماهيّة مّا. ونقول " زيد موجود عادلا " ولا نقول " زيد شيء عادلا ". والمحال يقال عليه " إنّه شيء " ولا يقال عليه " إنّه موجود ". فالشيء إذن يقال على كثير ممّا يقال عليه الشيء وعلى ما لا يقال عليه الشيء. (105) و " ليس بشيء " يُعنى به ما ليست له ماهيّة أصلا لا خارج النفس ولا في النفس. وهذا المعنى هو الذي فهم برمانديس من " غير الموجود "، فقال " وكلّ ما هو غير موجود فليس بشيء "، فإنّه أخذ " الموجود " على أنّه بتواطؤ وأخذ " غير الموجود " على أنّه يدلّ على ما لا ماهيّة له أصلا ولا بوجه من الوجوه، فلذلك حكم عليه أنّه ليس بشيء. فكان الذي ينتج عن هذا القول أنّ ما سوى الموجود ليس بشيء، وأنّه لا ماهيّة له أصلا. فأبطل بذلك كثرة الموجودات وجعل الموجود واحدافقط. وأمّا هو فإنّه أنتج من أوّل الأمر " فالموجود إذن واحد ". فهذه معاني ما يقال عليه الشيء.
الفصل السابع عشر: الذي من أجله (106) " والذي من أجله " يقال على أنحاء. الأوّل في مثل قولنا " الأساس هو من أجل الحائط والحائط هو الذي من أجله الأساس "، فإنّه يدلّ على أنّ الكلّ هو الذي من أجله الجزء. والثاني يدلّ على الآلة والذي فيه تُستعمَل الآلة، فإنّ الذي يُطلَب بلوغه باستعمال الآلة هو الذي لأجله الآلة، مثل المِبْضَع والفِصاد. والثالث هو الفعل الذي يؤدّي إلى غاية و غرض، فإنّ الغاية هو الذي لأجله الفعل، مثل التعليم والعلم الحاصل عنه، فإنّ العلم هو الذي لأجله التعليم. وفي جميع هذه يلزم ضرورة أن يكون الذي لأجله الشيء يتأخّر بالزمان عن الشيء وأن يتقدّمه الشيء بالزمان. والرابع المقتني، مثل الصحّة والإنسان. فإنّ الإنسان هو الذي لأجله التُمست الصحّة، والسرير الذي يعمله النجّار هو الذي لأجل زيد، والمال لأجل مقتني المال. والخامس يدلّ على المستعمل للآلة والخادم، فإنّ المِبْضَع إنّما التُمس لأجل الطبيب والمِثْقَب لأجل النجّار، فإنّ النجّار هو الذي لأجله عُمِل المِثْقَب. والسادس يدلّ على الذي يُقتدىبه ويُجعَل مثالا وإماما ودستورا، وهو يسمّى به فيما يُعمَل ويُلتمَس رضاه ويُتبَع أمره، مثل ضرب الحِيَد لأجل الملك، والجهاد هو من أجل الله، والله هو الذي من أجله الجهاد والصلاة وأعمال البرّ والتمسّك بالنواميس التي يشرّعها. فهذه الثلاثة يلزم فيها أن يتقدّم بالزمان الأشياء التي التُمست لأجله هذه. فإنّ هذه الأصناف التي لأجلها الشيء تتقدّم بالزمان الشيء ويتأخّر عنها الشيء بالزمان. (107) عن يدلّ على فاعل، وعلى هذه الجهة يقال "عن شَتْم فلان لفلان كانت الخصومة ".ويدلّ على المادّة وعلى هذه الجهة يقال " الإبريق عن النحاس ". ويدلّ على " بعدُ " كقولنا " عن قليل تعلم ذلك "، وعلى هذه الجهة يقال " كان الموجود عن لاموجود " أو عن العدم " أو " وُجد الشيء عن ضدّه ".
البابُ الثاني حُدوث الألفاظ وَالفلسفة والملّة الفصل التاسع عشر: الملة والفلسفة تقال بتقديم وتأخير (108) ولمّا كان سبيل البراهين أن يُشعَر بها بعد هذه لزم أن تكون القوى الجدليّة والسوفسطائيّة والفلسفة المظنونة أو الفلسفة المموّهة تقدّمت بالزمان الفلسفة اليقينيّة، وهي البرهانيّة. والملّة إذا جُعلت إنسانيّة فهي متأخّرة بالزمان عن الفلسفة، وبالجملة، إذ كانت إنّما يُلتمَس بها تعليم الجمهور الأشياء النظريّة والعمليّة التي استُنبطت في الفلسفة بالوجوه التي يتأتّى لهم فهم ذلك، بإقناع أو تخييل أو بهما جميعا. (109) وصناعة الكلام والفقه متأخّرتان بالزمان عنها وتابعتان لها. فإن كانت الملّة تابعة لفلسفة قديمة مظنونة أو مموّهة كان الكلام والفقه التابعان لها بحسب ذلك بل دونهما، وخاصّة إذا كانت قد خلّت الأشياء ألتي أخذتها عنهما أو عن إحداهما وأبدلت مكانها خيالاتها ومثالاتها، فأخذت صناعة الكلام تلك المثالات والخيالات على أنّها هي الحقّ اليقين والتمست تصحيحها بالأقاويل. وإن اتّفق أيضا أن يكون واضع نواميس متأخّر حاكىفيما شرّعه من الأشياء النظريّة واضع نواميس متقدّما قبله كان أخذ الأمور النظريّة عن فلسفة مظنونةأو مموّهة، وأخذ المثالات والخيالات التي تَخيّل بها الأوّل ما كان أخذه عن تلك الفلسفة على أنّها هي الحقّ لا أنّها مثالات، فالتمس تخييلها أيضا بمثالات تُخيّل تلك الأشياء، فأخذ صاحب الكلام في ملّته مثالاته تلك على أنّها هي الحقّ، صار ما تنظر فيه صناعة الكلام في هذه الملّة أبعد عن الحقّ من الأولى،
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 9:03 pm | |
|
. إذ كان إنّما تصحيح مثال مثالالشيء الذي ظُنّ حقّ أو مموَّه أنّه حقّ. (110) وبيّن أنّ صناعة الكلام والفقه متأخّرتان عن الملّة، والملّة متأخّرة عن الفلسفة، وأنّ القوّة الجدليّة والسوفسطائيّة تتقدّمان الفلسفة، والفلسفة الجدليّة والفلسفة السوفسطائيّة تتقدّمان الفلسفة البرهانيّة، فالفلسفة بالجملة تتقدّم الملّة على مثال ما يتقدّم بالزمان المستعمل الآلات الآلات. والجدليّة والسوفسطائيّة تتقدّمان الفلسفة على مثال تقدّم غذاء الشجرة للثمرة، أوعلى مثال ما تتقدّم زهرة الشجرة الثمرة. والملّة تتقدّم الكلام والفقه على مثال ما يتقدّم الرئيس المستعملُ للخادم الخادمَ المستعملُ للآلة الآلة. (111) والملّة إذ كانت إنّما تعلّم الأشياء النظريّة بالتخييل والإقناع، ولم يكن يعرف التابعون لها من طرق التعليم غير هذين، فظاهر أنّ صناعة الكلام التابعة للملّة لا تشعر بغير الأشياء المقنعة ولا تصحّح شيئا منها إلاّ بطرق وأقاويل إقناعيّة، ولا سيّما إذا قُصد إلى تصحيح مثالات الحقّ على أنّها هي الحقّ. والإقناع إنّما يكون بالمقدّمات التي هي في بادئ الرأي مؤثَرة ومشهورة، وبالضمائر والتمثيلات، وبالجملة بطرق خطبيّة، كانت أقاويل أو كانت أموراخارجة عنها. فالمتكلّم إذن يقتصر في الأشياء النظريّة التي يصحّحها على ما هو في بادئ الرأي مشترك. فهو يشاركالجمهور في هذا. لكنّه ربّما يتعقّب بادئ الرأي أيضا، لكنّه إنّما يتعقّب بادئ الرأي بشيء آخر هو أيضا بادئ الرأي. وأقصى ما يبلغ من التوثيق أن يجعل الرأي في نقضه جدليّا. فهو بهذا يفارق الجمهور بعض المفارقة. وأيضا فإنّه إنّما يجعل غرضه في حياته ما يستفاد بها. فهو أيضا يفارق الجمهور بهذا. وأيضا فإنّه لمّا كان خادما للملّة، وكانت الملّة منزلتها من الفلسفة تلك المنزلة، صار الكلام نسبته إلى الفلسفة أيضا على أنّها بوجه مّا خادمة لها أيضا بتوسّط الملّة، إذ كانت إنّما تنصر وتلتمس تصحيح ماقد صُحّح أوّلا في الفلسفة بالبراهين بما هو مشهور في بادئ الرأي عند الجميع ليحصل التعليم مشتركا للجميع. ففارق الجمهور بهذا أيضا. فلذلك ظُنّ به أنّه من الخاصّة لا من الجمهور. وينبغي أن يُعلَم أنّه أيضا من الخاصّة، لكن بالإضافة إلى أهل تلك الملّة فقط، والفيلسوف خاصّيّته بالإضافة إلى جميع الناس وإلى الأمم. (112) والفقيه يتشبّه بالمتعقّل. وإنّما يختلفان في مبادئ الرأي التي يستعملانها في استنباط الرأي الصواب في العمليّة الجزئيّة. وذلك أن ّ الفقيه إنّا يستعمل المبادئ مقدّمات مأخوذة منقولة عن واضع الملّة في العمليّة الجزئيّة، والمتعقّل يستعمل المبادئ مقدّمات مشهورة عند الجميع ومقدّمات حصلت له بالتجربة. فلذلك صار الفقيه من الخواصّ بالإضافة إلى ملّة مّا محدودة والمتعقّل من الخاصّة بالإضافة إلى الجميع. (113) فالخواصّ على الإطلاق إذن هم الفلاسفة الذين هم فلاسفة بإطلاق. وسائر مَن يُعَدّ من الخواصّ إنّما يُعَدّ منهم لأنّ فيهم شبها من الفلاسفة. من ذلك أنّ كلّ مَن قُلّد أو تقلّد رئاسة مدنيّة أو كان يصلح لأن يتقلّدها أو كان معَدّا لأن يتقلّدها يجعل نفسه من الخواصّ، إذ كان فيه شبه مّا من الفلسفة، إذ كان أحد أجزائها الصناعة الرئيسة العمليّة. ومن ذلك أنّ الحاذق من أهل كلّ صناعة عمليّة يجعل نفسه من الخواصّ لكونه أنّه قد استقصى تعقيب ما هو عند أهل الصناعة مأخوذ على الظاهر. وليس الحاذق من أهل كلّ صناعة يسمّينفسه بهذا الاسم فقط، لكنّ أهل صناعة عمليّة ربّما سمّوا أنفسهم خواصّ بالإضافة إلى مَن ليس هو من أهل تلك الصناعة، إذ كان إنّما يتكلّم وينظر في صناعته بالأشياء التي تخصّ صناعته، ومَن سواه إنّما يتكلّم وينظر فيها ببادئ الرأي وما هو مشترك عند الجميع في الصنائع كلّها. وأيضا فإنّ الأطّباء يسمّون أنفسهم أيضا من الخواصّ إمّا لأنّهم كانوا يتقلّدون تدبير المرضى المدنفين، وإمّا لأنّ صناعتهم تشارك العلم الطبيعيّ من الفلسفة، وإمّا لأنّهم يحتاجون إلى أن يستقصوا تعقيب ما هو في صناعتهم من بادئ الرأي أ كثر من سائر الصناعات للخطر والضرر الذي لا يؤمَن على الناس من أقلّ خطأ يكون منهم، وإمّا لأنّ صناعة الطبّ تستخدم صنائع كثيرة من الصنائع العمليّة مثل صناعة الطبخ والحرد وبالجملة الصنائع النافعة في صحّة الإنسان. ففي جميع هذه شبه من الفلسفة بوجه مّا. وليس ينبغي أن يسمّى أحد من هؤلاء خواصّ إلاّ على جهة الاستعارة، ويُجعَل الخواصّ أوّلا وفي الجودة على الإطلاق الفلاسفة، ثمّ الجدليّون والسوفسطائيّون، ثمّ واضعوا النواميس، ثمّ المتكلّمون والفقهاء. والعوامّ والجمهور أولئك الذين حدّدناهم، كان فيهم مَن تقلّد رئاسة مدنيّة أو كان يصلح أن يقلَّدها أم لا. | |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الإثنين أبريل 30, 2012 9:05 pm | |
|
الفصل العشرون: حدوث حروف الأمّة وألفاظها (114) وبيّن أنّ العوامّ والجمهور هم أسبق في الزمان من الخواصّ. والمعارف المشتركة التي هي بادئ رأي الجميع في الزمان من الصنائع العمليّة ومن المعارف التي تخصّ صناعة صناعة منها، وهذه جميعا هي المعارف العاميّة. وأوّل ما يحدثون ويكونون هؤلاء. فإنّهم يكونون في مسكن وبلد محدود، ويُفطَرون على صُوَر وخِلَق في أبدانهم محدودة، وتكون أبدانهم على كيفيّة وأمزجة محدودة، وتكون أنفسهم معَدّة ومسدّدة نحو معارف وتصوّرات وتخيّلات بمقادير محدودة في الكميّة والكيفيّة - فتكون هذه أسهل عليهم من غيرها -، وأن تنفعل انفعالات على أنحاء ومقادير محدودة الكيفيّة والكميّة - وتكون هذه أسهل عليها -، وتكون أعضائهم معدّة لأن تكون حركتها إلى جهات مّا وعلى أنحاء أسهل عليها من حركتها إلى جهات أخر وعلى أنحاء أخر. (115) والإنسان إذا خلا من أوّل ما يُفطَر ينهض ويتحرّك نحو الشيء الذي تكون حركته إليه أسهل عليه بالفطرة وعلى النوع الذي تكون به حركته أسهل عليه، فتنهض نفسه إلى أن يعلم أو يفكّر أو يتصوّر أو يتخيّل أو يتعقّل كلّ ما كان استعداده له بالفطرة أشدّ وأ كثر - فإنّ هذا هو الأسهل عليه - ويحرّك جسمه وأعضاءه إلى حيث تَحَرُّكه وعلى النوع الذي استعدادُه بالفطرة له أشدّ وأ كثر وأ كمل - فإنّ هذا أيضا هو الأسهل عليه. وأوّل ما يفعل شيئامن ذلك يفعل بقوّة فيه بالفطرة وبملكة طبيعيّة، لا باعتياد له سابق قبل ذلك ولا بصناعة. وإذا كرّر فِعْل شيء من نوع واحد مرارا كثيرة حدثت له ملكة اعتياديّة، إمّا خلقيّة أو صناعيّة. (116) وإذا احتاج أن يعرّف غيره ما في ضميره أو مقصوده استعمل الإشارة أوّلا في الدلالة على ما كان يريد ممّن يلتمس تفهيمه إذا كان مَن يلتمس تفهيمه بحيث يبصر إشارته، ثمّ استعمل بعد ذلك التصويت. وأوّل التصويتات النداء - فإنّه بهذا ينتبه مَن يلتمس تفهيمه أنّه هو المقصود بالتفهيم لا سواه - وذلك حين ما يقتصر في الدلالة على ما ضميره بالإشارة إلى المحسوسات. ثمّ من بعد ذلك يستعمل تصويتات مختلفة يدلّ بواحد واحد منها على اوحد واحد ممّا يدلّ عليه بالإشارة إليه وإلى محسوساته، فيجعل لكلّ مشار إليه محدود تصويتا مّا محدودا لا يستعمل ذلك التصويت في غيره، وكلّ واحد من كلّ واحد كذلك. (117) وظاهر أنّ تلك التصويتات إنّما تكون من القرع بهواء النفَس بجزء أو أجزاء من حلقه أو بشيء من أجزاء ما فيه وباطن أنفه أو شفتيه، فإنّ هذه هي الأعضاء المقروعة بهواء النفَس. والقارع أوّلا هي القوّة التي تسرّب هواء النفَس من الرئة وتجويف الحلق أوّلا فأوّلا إلى طرف الحلق الذي يلي الفم والأنف وإلى ما بين الشفتين، ثمّ اللسان يتلقّى ذلك الهواء فيضعطه إلى جزء جزء من أجزاء باطن الفم وإلى جزء جزء من أجزاء أصول الأسنان وإلى الأسنان، فيقرع به ذلك الجزءَ فيحدث من كلّ جزء يضغطه اللسان عليه ويقرعه به تصويت محدود، وينقله اللسان بالهواء من جزء إلى جزء من أجزاء أصل الفم فتحدث تصويتات متوالية كثيرة محدودة. (118) وظاهر أنّ اللسان إنّما يتحرّك أوّلا إلى الجزء الذي حركته إليه أسهل. فالذين هم في مسكن واحد وعلى خِلَق في أعضائهم متقاربة، تكون ألسنتهم مفطورة على أن تكون أنواع حركاتها إلى أجزاء أجزاءمن داخل الفم أنواعا واحدة بأعيانها، وتكون تلك أسهل عليها من حركاتها إلى أجزاء أجزاء أخر . ويكون أهل مسكن وبلد آخر، أذا كانت أعضاؤهم على خِلَق وأمزجة مخالفة لخِلَق أعضاء أولئك، مفطورين على أن تكون حركة ألسنتهم إلى أجزاء أجزء من داخل الفم أسهل عليهم من حركتها إلى الأجزاء التي كانت ألسنة أهل المسكن الآخر تتحرّك إليها، فتخالف حينئذ التصويتات التي يجعلونها علامات يدلّ بها بضعهم بعضا على ما في ضميره ممّا كان يُشير إليه وإلى محسوسه أوّلا. ويكون ذلك هو السبب الأوّل في اختلاف ألسنة الأمم. فإنّ تلك التصويتات الأول هي الحروف المعجمة. (119) ولأنّ هذه الحروف إذا جعلوها علامات أوّلا كانت محدودة العدد، لم تف بالدلالة على جميع ما يتّفق أن يكون في ضمائرهم إلى تركيب بعضها إلى بعض بموالاة حرف حرف، فتحصل في ألفاظ من حرفين أو حروف، فيستعملونها علامات أيضا لأشياء أخر. فتكون الحروف والألفاظ الأول علامات لمحسوسات يمكن أن يشار إليها ولمعقولات تستند إلى محسوسات يمكن أن يشار إليها، فإنّ كلّ معقول كلّيّ له أشخاص غير أشخاص المعقول الآخر. فتحدث تصويتات كثيرة مختلفة، بعضها علامات لمحسوسات - وهي ألقاب - وبعضها دالّة على معقولات كلّيّة لها أشخاص محسوسة. وإنّما يُفهَم من تصويت تصويت أنّه دالّ على معقول معقول متى كان تردّد تصويت واحد بعينه على شخص مشار إليه وعلى كلّ ما يشابهه في ذلك المعقول. ثمّ يُستعمَل أيضا تصويت آخر على شخص تحت معقول مّا آخر وعلى كلّ ما يشابهه في ذلك المعقول. | |
|
| |
مجـــتهده
عدد المساهمات : 29 تاريخ التسجيل : 10/04/2012
| |
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:38 am | |
| الفصل الحادي والعشرون: أصل لغة الأمّة واكتمالها . (120) فهكذا تحدث أوّلا حروف تلك الأمّة وألفاظها الكائنة عن تلك الحروف. ويكون ذلك أوّلا ممّن اتّفق منهم. فيتّفق أن يستعمل الواحد منهم تصويتا أو لفظة في الدلالة على شيء مّا عندما يخاطب غيره فيحفظ السامع ذلك، فيستعمل السامع ذلك بعينه عندما يخاطب المنشئ الأوّل لتلك اللفظة، ويكون السامع الأوّل قد احتذى بذلك فيقع به، فيكونان قد اصطلحا وتواطئا على تلك اللفظة، فيخاطبان بها غيرهما إلى أن تشيع عند جماعة.ثمّ كلّما حدث في ضمير إنسان منهم شيء احتاج أن يُفهمه غيره ممّن يجاوره، اخترع تصويتا فدلّ صاحبَه عليه وسمعه منه فيحفظ كلّ واحد منهما ذلك وجعلاه تصويتا دالاّ على ذلك الشيء. ولا يزال، يُحدث التصويتات واحد بعد آخر ممّن اتّفق من أهل ذلك البلد، إلى أن يُحدث مَن يدبّر أمرهم ويضع بالإحداث ما يحتاجون إليه من التصويتات للأمور الباقية التي لم يتّفق لها عندهم تصويتات دالّة عليها. فيكون هو واضع لسان تلك الأمّة. فلا يزال منذ أوّل ذلك يدبّر أمرهم إلى أن توضع الألفاظ لكلّ ما يحتاجون إليه في ضروريّة أمرهم. (121) ويكون ذلك أوّلا لما عرفوه ببادئ الرأي المشترك وما يُحَسّ من الأمور التي هي محسوسات مشتركة من الأمور النظريّة مثل السماء والكواكب والأرض ومافيها، ثمّ لما استنبطوه عنه، ثمّ من بعد ذلك للأفعال الكائنة عن قواهم التي هي لهم بالفطرة، ثمّ للملَكات الحاصلة عن اعتياد تلك الأفعال نت أخلاق أو صنائع للأفعال الكائنة عنها بعد أن حصلت ملَكات عن اعتيادهم، ثمّمن بعد ذلك لما تحصل لهم معرفته بالتجربة أوّلا ولما يُستنبَط عمّا حصلت معرفته بالتجربة من الأمور المشتركة لهم أجمعين، ثمّ من بعد ذلك للأشياء التي تخصّ صناعة صناعة من الصنائع العمليّة من الآلات وغيرها، ثمّ لما يُستخرَج ويوجد بصناعة صناعة، إلى أن يؤتى على ما تحتاج إليه تلك الأمّة. (122) فإن كانت فِطَر تلك الأمّة على اعتدال وكانت أمّة مائلة إلى الذكاء والعلم طلبوا بفِطَرهم من غير أن يعتمدوا في تلك الألفاظ التي تُجعَل دالّة على المعاني محاكاة المعاني وأن يجعلوها أقرب شبها بالمعاني والموجود، ونهضت أنفسهم بفِطَرها لأن تتحرّى في تلك الألفاظ أن تنتظم بحسب انتظام المعاني على أ كثر ما تتأتّى لها في الألفاظ، فيُجتهَد في أن تُعرب أحوالها الشبه من أحوال المعاني. فإن لم يفعل ذلك مَن اتّفق منهم فعل ذلك مدبّروا أمورهم في ألفاظهم التي يشرّعونها. (123) فيبين منذ أوّل الأمر أنّ ههنا محسوسات مدرَكة بالحسّ، وأنّ فيها أشياء متشابهة وأشياء متباينة، وأنّ المحسوسات المتشابهة إنّما تتشابه في معنى واحد معقول تشترك فيه، وذلك يكون مشتركا لجميع ما تشابه، ويُعقَل في كلّ واحد منها ما يُعقَل في الآخر، ويسمّى هذا المعقول المحمول على كثير " الكلّيّ " و" المعنى العامّ ". وأمّا المحسوس نفسه، فكلّ معنى كان واحدا ولم يكن صفة مشتركة لأشياء كثيرة ولم يكن يشابهه شيء أصلا، فيسمّى الأشخاص والأعيان؛ والكلّيّات كلّها فتسمّى الأجناس والأنواع. فالألفاظ إذن بعضها ألفاظ دالّة على أجناس وأنواع وبالجملة الكلّيّات، ومنها دالّة على الأعيان والأشخاص. والمعاني تتفاضل في العموم والخصوص. فإذا طلبوا تشبيه الألفاظ بالمعاني جعلوا العبارة عن معنى واحد يعمّ أشياء مّا كثيرة بلفظ واحد بعينه يعمّ تلك الأشياء الكثيرة، وتكون للمعاني المتفاضلة في العموم والخصوص ألفاظ متفاضلة في العموم والخصوص، وللمعاني المتباينة ألفاظ متباينة. وكما أنّ في المعاني معاني تبقى واحدة بعينها تتبدّل عليها أعراض تتعاقب عليها، كذلك تُجعَل في الألفاظ حروف راتبة وحروف كأنّها أعراض متبدّلة على لفظ واحد بعينه، كلّ حرف يتبدّل لعرض يتبدّل. فإذا كان المعنى الواحد يثبت وتتبدّل عليه أعراض متعاقبة، جُعلت العبارة بلفظ واحد يثبت ويتبدّل عليها حرف حرف، وكلّ حرف منها دالّ على تغيير تغيير. وإذا كانت المعاني متشابهة بعرض أو حال مّا تشترك فيها، جُعلت العبارة عنها بألفاظ متشابهة الأشكال ومتشابهة بالأواخر والأوائل، وجُعلت أواخرها كلّها أوأوائلها حرفاواحدافجُعل دالاّ على ذلك العرض. وهكذا يُطلَب النظام في الألفاظ تحريّا لأن تكون العبارة عن معان بألفاظ شبيهة بتلك المعاني. (124) ويبلغ من الاجتهاد في طلب النظام وشبه الألفاظ بالمعاني إلى أن تُجعَل اللفظةالواحدة دالّة على معان متباينة الذوات متى تشابهت بشيء مّا غير ذلك وعلى أدائها وإن كان بعيدا جدّا، فتحدث الألفاظ المشكّكة. (125) ثمّ يبين لنا شبه الألفاظ بالمعاني، ونحاكي بالألفاظ المعاني التي ليست تكون بها العبارة، فيُطلَب أن يُجعَل في الألفاظ ألفاظ تعمّ أشياء كثيرة من حيث هي ألفاظ، كما أنّ في المعاني معاني تعمّ الأشياء كثيرة المعاني
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:39 am | |
|
. فتحدث الألفاظ المشتركة، فتكون هذه الألفاظ المشتركة من غير أن يدلّ كلّ واحد منها على معنى مشترك. وكذلك يُجعَل في الألفاظ ألفاظ متباينة من حيث هي ألفاظ فقط، كما أنّ المعاني معاني متباينة. فتحصل ألفاظ مترادفة. (126) ويُجرى ذلك بعينه في تركيب الألفاظ، فيحصل تركيب الألفاظ شبيها بتركيب المعاني المركَّبة التي تدلّ عليها تلك الألفاظ المركَّبة، ويُجعَل في الألفاظ لمركَّبة أشياء ترتبط بهاالألفاظ بعضها إلى بعض متى كانت الألفاظ دالّة على معان مركَّبة ترتبط بعضها ببعض. ويُتحرّى أن يُجعَل ترتيب الألفاظ مساويا لترتيب المعاني في النفس. (127) فإذا استقرّت الألفاظ على المعاني التي جُعلت علامات لها فصار واحد واحد لواحد واحد وكثير لواحد أو واحد لكثير، وصارت راتبة على التي جُعلت دالّة على ذواتها، صار الناس بعد ذلك إلى النسخ والتجوّز في العبارة بالألفاظ، فعُبّر بالمعنى بغير اسمه الذي جُعل له أوّلا وجُعل الاسم الذي كان لمعنى مّا راتبا له دالاّ على ذاته عبارة عن شيء آخر كان له به تعلّق ولو كان يسيرا إما لشبه بعيد وإمّا لغير ذلك، من غير أن يُجعَل ذلك راتبا للثاني دالاّ على ذاته. فيحدث حينئذ الاستعارات والمجازات والتحرّد بلفظ معنى مّا عن التصريح بلفظ المعنى الذي يتلوه متى كان الثاني يُفهَم منالأوّل، وبألفاظ معان كثيرة يصرَّح بألفاظها عن التصريح بألفاظ معان أخر إذا كان سبيلها أن تُقرَن بالمعاني الأول متى كانت تُفهَم الأخيرة مع فهم الأولى، والتوسّع في العبارة بتكثير الألفاظ وتبديل بعضها ببعض وترتيبها وتحسينها. فيبتدئ حين ذلك في أن تحدث الخطبيّة أوّلا ثمّ الشعريّة قليلا قليلا. (128) فينشأ مَن نشأ فيهم على اعتيادهم النطق بحروفهم وألفاظهم الكائنة عنها وأقاويلهم المؤلَّفة عن ألفاظهم من حيث لا يتعدّون اعتيادهم ومن غير أن يُنطَق عن شيء إلاّ ممّا تعوّدوا استعمالها. ويمكّن ذلك اعتيادهم لها في أنفسهم وعلى ألسنتهم حتّى لا يعرفوا غيرها، حتّى تحفوا ألسنتهم عن كلّ لفظ سواها وعن كلّ تشكيل لتلك الألفاظ غير التشكيل الذي تمكّن فيهم وعن كلّ ترتيب للأقاويل سوى ما اعتادوه. وهذه التي تمكّنت على ألسنتهم وفي أنفسهم بالعادة على ماأخذوه ممّن سلف منهم، وأولئك أيضا عن مَن سلف، وأولئك أيضا عن مَن وضعها لهم أوّلا. بإكمال التي وضعها لهم أولئك. فهذاهو الفصيح والصواب من ألفاظهم، وتلك الألفاظ هي لغة تلك الأمّة، وما خالف ذلك فهو الأعجم والخطأ من ألفاظهم. الفصل الثاني والعشرون: حدوث الصنائع العامّيّة (129) وبيّن أنّ المعاني المعقولة عند هؤلاء هي كلّها خطبيّة، إذ كانت كلّها ببادئ الرأي. والمقدّمات عندهم وألفاظهم وأقاويلهم كلّها أوّلاخطبيّة. فالخطبيّة هي السابقة أوّلا. وعلى طول الزمان تحدث حوادث تُحْوجهم فيها إلى خُطَب وأجزاء خُطَب.ولا تزال تنشأ قليلا قليلا إلى أن تحدث فيهم أوّلا من الصنائع القياسيّة صناعة الخطابة. ويبتدئ مع نشئها أو بعد نشئها استعمال مثالات المعاني وخيالاتها مفهمة لها أو بدلا منها،فتحدث المعاني الشعريّة. ولا يزالينمو ذلك قليلا قليلا إلى أن يحدث الشعر قليلا قليلا،فتحصل فيهم من الصنائع القياسيّة صناعة الشعر لما في فطرة الإنسان من تحرّي الترتيب والنظام في كلّ شيء. فإنّ أوزان الألفاظ هي لها رتبة وحسن تأليف ونظام بالإضافة إلى زمان النطق. فتحصل أيضا على طول الزمان صناعة الشعر. فتحصل فيهم من الصنائع القياسيّة هاتان الصناعتان - و هما العامّتان - منالصنائع القياسيّة. . (130) فينشغلون أيضافي الخُطَب والأشعار حتّى يقتصّوابهما الأخبار عن الأمور السابقة والحاضرة التي يحتاجون إليها. فيحدث فيهم رواة الخُطَب و رواة الأشعار وحفّاظ الأخبار التي اقتُصّت بها. فيكونون هؤلاءهم فصحاء تلك الأمّة وبلغاؤهم، ويكونون همحكماء تلك الأمّة أوّلا ومدبّروهم والمرجوع إليهم في لسان تلك الأمّة. وهؤلاء أيضاهم الذين يركّبون لتلك الأمّة ألفاظا كانت غير مركَّبة قبل ذلك، و يجعلونها مرادفة للألفاظ المشهورة، ويُمنعون في ذلك ويُكثرون منها، فتحصل ألفاظ غريبة يتعارفها هؤلاء ويتعلّمها بعضهم عن بعض ويأخذها غابرهم عن سالفهم . وأيضا فإنّهم مع ذلك يعمدون إلى الأشياء التي لم تكن اتّفقتلها تسمية من الأمور الداخلة تحت جنس أو نوع. فربّما شعروا بأعراض فيصيّرون لها أسماء. وكذلك الأشياء التي لم يكن يُحتاج إليها ضرورة فلم يكن اتّفق لها أسماء لأجل ذلك، فإنّهم يركّبون لها أسماء ، والباقون من تلك الأمّة سواهم لا يعرفون تلك الأسماء، فيكون جميع ذلك من الغريب.فهؤلاء هم الذين يتأمّلون ألفاظ هذه الأمّة ويُصلحون المختلّ منها.
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:41 am | |
| وينظرون إلى ما كانالنطق به عسيرا في أوّل ما وُضع فيسهّلونه؛ وإلى ما كان بشع المسموع فيجعلونه لذيذ المسموع؛ وإلى ما عرض فيه عسر النطق عن التركيبات الذي لم يكن الأوّلون يشعرون به ولا عرض في زمانهم فيعرفونه أو يشعرون فيه بشاعة المسموع، فيحتالون في الأمرين جميعا حتّى يسهّلوا ذلك ويجعلوا هذا لذيذا في السمع. وينظرون إلى أصناف التركيبات الممكنة في ألفاظهم والترتيبات فيها ويتأمّلون أيّها أ كمل دلالة على تركيب المعاني في النفس وترتيبها، فيتحرّون تلك وينبّهون عليها، ويتركون الباقية فلا يستعملونها إلاّ عند ضرورة تدعو إلى ذلك. فتصير عندها ألفاظ تلك الأمّة أفصح ممّا كانت، فتتكمّل عند ذلك لغتهمولسانهم.ثمّ يأخذ الناشئ هذه الأشياء عن السالف على الأحوال التي سمعها من السالف، وينشؤُ عليها ويتعوّدها مع مَن نشّأه، إلى أن تتمكّن فيه تمكّنا يحفو به أن يكون ناطقا لغير الأفصح من ألفاظهم. ويحفظ الغابر منهم ما قد عمل به الماضي منالخُطَب والأشعار وما فيها من الأخبار والآداب. (131) ولا يزالون يتداولون الحفظإلى أن يكثر عليهمما يلتمسون حفظه ويعسرفيُحْوجهم ذلك إلى الفكر فيما يسهّلونه به على أنفسهم فتُستنبَط الكتابة. وتكون في أوّل أمرها مختلطة إلى أن تصلح قليلا قليلا على طول الزمان ويحاكى بها الألفاظ وتُشبَّه بها وتُقرَّب منها أ كثر ما يمكن، على ما فعلوا قديما بالألفاظ بأن قرّبوها في الشبه من المعاني ما أمكنهم من التقريب. فيدوّنون بها في الكتب ما عسر حفظه عليهم وما لا يؤمَن بأن يُنسى على طول الزمان وما يلتمسون إبقاءها على مَن بعدهم وما يلتمسون تعليمها وتفهيمها مَن هو ناء عنهم في بلد أو مسكن آخر. . (132) ثمّ من بعد ذلك يُرى أنيُحدَث صناعة علم اللسان قليلا قليلا بأن يتشوّق إنسان إلى أن يحفظ ألفاظهم المفردة الدالّة بعد أن يحفظ الأشعار والخُطَب والأقاويل المركَّبة، فيتحرّى أن يفردها بعد التركيب، أو أراد التقاطها بالسماع من جماعتهم ومن المشهورين باستعمال الأفصح من ألفاظهم وفي مخاطباته كلّها وممّن قد عنى بحفظ خُطَبهم وأشعارهم وأخبارهم أو ممّن سمع منهم، فيسمعها من واحد واحد منهم في زمان طويل، ويكتب ما يسمعه منهم ويحفظه. (133) وقد يجب لذلك أن يعلم مَن الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم لسان تلك الأمّة. فنقول إنّه ينبغي أن يؤخذ عن الذين تمكّنت عادتهم لهم على طول الزمان في ألسنتهم وأنفسهم تمكّنا يحصَّنون به عن تخيّل حروف سوى حروفهم والنطق بها، وعن تحصيل ألفاظ سوى المركَّبة عن حروفهم وعن الناطق بها ممّن لم يسمع غير لسانهم ولغتهم أو ممّن سمعها وجفا ذهنه عن تخيّلها ولسانه عن النطق بها. وأمّا مَن كان لسانه مطاوعا على النطق بأيّ حرف شاء ممّا هو خارج عن حروفهم وبأيّ لفظ شاء من الألفاظ المركَّبة عن حروف غير حروفهم وبأيّ قول شاء من الأقاويل المركَّبة من ألفاظ سوى ألفاظهم فإنّه لا يؤمَن أن يجري على لسانه ما هو خارج عن عاداتهم الممكَّنة الأولى فيعوَّد ما قد جرى على لسانه فتصير عبارته خارجة عن عبارة الأمّة ويكون خطأ ولحنا وغير فصيح. فإن كان مع ذلك قد خالط غيرهم من الأمم وسمع ألسنتهم أو نطق بها كانالخطأ منه أقرب وأحرى، ولم يؤمَن بما يوجد جاريا في عادته أنّه لغير تلك الأمّة التي هو منهم. وكذلك الذين كانوا يحصَّنون عن النطق وعن تحصيل حروف سائر الأمم وألفاظهم - إذ كانوا يحصَّنون عمّا لم يكن عُوّدوه أوّلا من مخالفة أشكال ألفاظهم وإعرابها - إذا كثرت مخالطتهم لسائر الأمم وسماعهم بحروفهم وألفاظهم، لم يؤمَن عليه أن تتغيّر عادته الأولى ويتمكّن فيه ما يسمعه منهم فيصير بحيث لا يوثق بما يُسمع منه. (134)ولمّا كان سكان البرّيّة في بيوت الشَعر أو الصوف والخيام والأحسية من كلّ أمّة أجفى وأبعد من أن يتركوا ما قد تمكّن بالعادة فيهم وأحرى أن يحصّنوا أنفسهم عن تخيّل حروف سائر الأمم وألفاظهم وألسنتهم عن النطق بها وأحرى أن لا يخالطهم غيرهم من الأمم للتوحّش والجفاء الذي فيهم،
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:42 am | |
| وكان سكان المدن والقرى وبيوت المدر منهم أطبع وكانت نفوسهم أشدّ انقيادا لتفهّم ما لم يتعوّدوه ولتصوّره وتخيّله وألسنتهم للنطق بما لم يتعوّدوه، كان الأفضل أن تؤخذ لغات الأمّة عن سكان البراري منهم متى كانت الأمم فيهم هاتان الطائفتان. ويُتحرّى منهم مَن كان في أواسط بلادهم. فإنّ مَن كان في الأطراف منهم أن يخالطوا مجاوريهم من الأمم فتختلط لغاتهم بلغات أولئك، وأن يتخيّلوا عجمة مَن يجاورهم. فإنّهم إذا عاملوهم احتاج أولئك أن يتكلّموا بلغة غريبة عن ألسنتهم، فلا تطاوعهم على كثير من حروف هؤلاء، فيلتجئوا إلى أن يعبّروا بما يتأتّى لهم ويتركوا ما يعسر عليهم. فتكون ألفاظهم عسيرةقبيحة وتوجد فيها لكنة وعجمة مأخوذة من لغات أولئك. فإذا كثر سماع هؤلاء ممّن جاورهم من هذه الأمم للخطأ وتعوّدوا أن يفهموه على أنّه من الصواب لم يؤمَن تغيّر عادتهم، فلذلك ليس ينبغي أن تؤخذ عنهم اللغة. ومَن لم يكن فيهم سكّان البراري أُخذت عن أوسطهم مسكنا. (135) وأنت تتبيّن ذلك متى تأمّلت أمر العرب في هذه الأشياء. فإنّ فيهم سكّان البراري وفيهم سكّان الأمصار. وأ كثر ما تشاغلوا بذلك من سنة تسعين إلى سنة مائتين. وكان الذي تولّى ذلك من بين أمصارهم أهل الكوفة والبصرة في أرض العراق. فتعلّموا لغتهم والفصيح منها من سكّان البراري منهم دون أهل الحضر، ثمّ من سكّان البراري مَن كان في أوسط بلادهم ومن أشدّهم توحشّا وجفاء وأبعدهم إذعانا وانقيادا، وهم قَيس وتَميم وأسَد وطَيّ ثمّ هُذَيل، فإن هؤلاء هم مُعظَم مَن نُقل عنه لسان العرب. والباقون فلم يؤخذ عنهم شيء لأنّهم كانوا في أطراف بلادهم مخالطين لغيرهم من الأمم مطبوعين على سرعة انقياد ألسنتهم لألفاظ سائر الأمم المطيفة بهم من الحبشة والهند والفرس والسريانيّين وأهل الشام وأهل مصر. (136) فتؤخذ ألفاظهم المفردة أوّلا إلى أن يؤتى عليها، الغريب والمشهور منها، فيُحفَظ أو يُكتَب، ثمّ ألفاظهم المركَّبةكلّها من الأشعار والخُطَب. ثمّ من بعد ذلك يحدث للناظر فيها تأمّل ما كان منها متشابها في المفردة منها وعند التركيب، وتؤخذ أصناف المتشابهات منها وبماذا تتشابه في صنف صنف منها وما الذي يلحق كلّ صنف منها. فيحدث لها عند ذلك في النفس كلّيّات وقوانين كلّيّة. فيحتاج فيما حدث في النفس من كلّيّات الألفاظ وقوانين الألفاظ إلى ألفاظ يعبّر بها عن تلك الكلّيّات والقوانين حتّى يُمكن تعليمها وتعلّمها. فيعمل عند ذلك أحد شيئين: إمّا أن يخترع ويركّب من حروفهم ألفاظا لم يُنطَق بها أصلا قبل ذلك، وإمّا أن ينقل إليها ألفاظامن ألفاظهم التي كانوا يستعملونها قبل ذلك في الدلالة على معان أخر غيرها إمّا كيف اتّفق لا لأجل شيء وإمّا لأجل شيء مّا. وكلّ ذلك ممكن شائع، لكن الأجود أن تسمّى القوانين بأسماء أقرب المعاني شبها بالقوانين، بأن ينظر أيّ معنى من المعاني الأول يوجد أقرب شبها بقانون من قوانين الألفاظ فيسمّى ذلك الكلّيّ وذلك القانون باسم ذلك المعنى، حتّى يؤتى من هذا المثال على تسمية جميع تلك الكلّيّات والقوانين بأسماء أشباهها من المعاني الأول التي كانت عندهم أسماء. (137) فيصيّرون عند ذلك لسانهم ولغتهم بصورة صناعة يمكن أن تُتعلَّم وتُعلَم بقول، وحتّى يمكن أن تُعطى عِلَل كلّ ما يقولون. كذلك خطوطهم التي بها يكتبون ألفاظهم، إذا كانت فيها كلّيّات وقوانين أُخذت كلّها فالتُمس حتّى تصير يُنطَق عنها ويمكن أن تُعلَّم وتُتعلَّم بقول. فتصير الألفاظ التي يعبَّر بها حينئذ عن تلك القوانين الألفاظ التي في الوضع الثاني، والألفاظ الأول هي الألفاظ التي في الوضع الأوّل، فالألفاظ التي في الوضع الثاني منقولة عن المعاني التي كانت تدلّ عليها. (138) فتحصل عندهم خمس صنائع: صناعة الخطابة، وصناعة الشعر، والقوّة على حفظ أخبارهم وأشعارهم وروايتها، وصناعة علم لسانهم، وصناعة الكتابة. فالخطابة جودة إقناع الجمهور في الأشياء التي يزاولها الجمهور وبمقدار المعارف التي لهم وبمقدّمات هي في بادئ الرأي مؤثَرة عند الجمهور وبالألفاظ التي هي في الوضع الأوّل على الحال التي اعتاد الجمهور استعمالها. والصناعة الشعريّة تُخيّل بالقوّة في هذه الأشياء بأعيانها. وصناعة علم اللسان إنّما تشتمل على الألفاظ التي هي في الوضع الأوّل دالّة على تلك المعاني بأعيانها.
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:44 am | |
|
(139) فالمعتنون بها فالمعتنون بها يُعدّون إذن مع الجمهور، إذ كان ليس معاني ولا واحد منهم بصناعته هي من الأمور النظريّة ولا شيئا من الصناعة التي هي رئيسة الصنائع على الإطلاق. وقد لا يمتنع أن يكون رؤساء وصنائع رئيسة - وهي الصنائع التي بها يتأتّى تدبير أمورهم - وهي إمّا صناعة تحفظ عليهم صنائعهم التي يزاولونها ليبلغ كلّ واحد ممّا يزاوله منها غرضه به ولا يعتاق عنه، وإمّا صناعة يستعملهم بها رئيسهم في صنائعهم ليبلغ بهم غرضه وما يهواه لنفسه من مال أو كرامة. ويكون منزلته منهم منزلة رئيس الفلاّحين. وذلك أنّ رئيس الفلاّحين تكون له قدرة على جودة التأتّي لأن يستعمل الفلاّحين وجودة المشورة عليهم في الفلاحة ليبلغوا غرضهم بأصناف فلاحتهم أو ليبلغ هو بأصناف فلاحتهم غرضه وما يلتمسه، فهكذا هو يُعَدّ أيضا منهم. وعلى هذا المثال يكون رئيس الجمهور ومدبّر أمورهم فيما يستعملهم فيه من الصنائع العمليّة وفيما يحفظ عليهم صنائعهم وبالجملة استعمالهم فيها لأنفسهم أو لنفسه أو لهم وله. فهو أيضا منهم، إذ كان غرضه الأقصى هو غرضهم أيضا بصناعته، إذ هي بعينها صناعتهم في الجنس والنوع، إلاّ أنّها أسمى ما في ذلك الجنس أو النوع. فإذن رؤساء الجمهور الذين يحفظون عليهم الأشياء التي هم بها جمهور ويستعملونهم في التي هم بها جمهور هم من الجمهور، إذ كان الرئيس غرضه في حفظها عليهم واستعمالهم فيها هو غرضهم، بأن يحصل له وحده وبأنيحصل لهم، فهو منهم. فإذن رؤساء الجمهور الذين هكذا هم من الجمهور أيضا. فهذه صناعة أخرى من صنائع الجمهور. وهي أيضا صناعة عامّيّة، إلاّ أنّ أصحابها والمعتنين بها يجعلون أنفسهم من الخواصّ. فإذن ملوك الجمهور هم أيضا من الجمهور. الفصل الثالث والعشرون: حدوث الصنائع القياسيّة في الأمم (140) فإذا استُوفيت الصنائع العمليّة وسائر الصنائعالعاميّة التي ذكرناها اشتاقت النفوس بعد ذلك إلى معرفة أسباب الأمور المحسوسة في الأرض وفيما عليها وفيما حولها وإلى سائر ما يُحَسّ من السماء ويظهر،وإلى معرفة كثير من الأمور التي استنبطتها الصنائع العمليّة من الأشكال والأعداد والمناظر في المرايا والألوانوغير ذلك. فينشأ مَن يبحث عن عِلَل هذه الأشياء. ويستعمل أوّلا في الفحص عنها وفي تصحيح ما يصحّح لنفسه فيها من الآراء وفي تعليم غيره وما يصحّحه عند مراجعتهالطرق الخطبيّة لأنّها هي الطرق القياسيّة التي يشعرونبها أوّلا. فيحدث الفحص عن الأمور التعاليميّة وعن الطبيعة. (141) ولا يزال الناظرون فيهايستعملون الطرق الخطبيّة، فتختلف بينهم الآراء والمذاهب وتكثر مخاطبة بعضهم بعضا في الآراء التي يصحّحها كلّ واحد لنفسه ومراجعة كلّ واحد للآخر. فيحتاج كلّ واحدإذا روجع فيما يراه مراجعة معاندةأن يوثّق ما يستعمله من الطرق ويتحرّى أن يجعلها بحيث لا تعانَد أو يعسر عنادها. ولا يزالون يجتهدون ويختبرون الأوثقإلى أن يقفوا على الطرق الجدلية بعد زمان. وتتميز لهم الطرق الجدلية من الطرق السوفسطائية، إذ كانوا قبل ذلك يستعملونها غير متميزتين، إذ كانت الطرق الخطبية مشتركة لهما ومختلطة بهما،فُترفَض عند ذلك الطرق الخطبية وتُستعمل الجدلية. ولأنّ السوفسطائية في الفحص عن الآراء وفي تصحيحها.ثمّ يستقرّ في النظر في الأمور النظرية والفحص عنها وتصحيحها على الطرق الجدلية وتُطرَح السوفسطائية ولا تُستعمل إلاّ عند المحنة. (142) فلا تزال تُستعمَل إلى أن تكمل المخاطبات الجدليّة، فتبين بالطرق الجدليّة أنّها ليست هي كافية بعد في أن يحصل اليقين. فيحدث حينئذ الفحص عن طرق التعليم والعلم اليقين، وفي خلال ذلك يكون الناس قد وقعوا على الطرق التعاليمية وتكاد تكتملأو تكون قد قاربت الكمال، فيلوح لهم مع ذلك الفرق بين الطرق الجدليّة وبين الطرق اليقينيّةوتتميّز بعض التمييز ويميل الناس مع ذلك إلى علم الأمور المدنية، وهي الأشياء التي هي مبدؤها الإرادة والاختيار. ويفحصون عنها بالطرق الجدليّة مخلوطة بالطرق اليقينيّة وقد بُلغ بالجدليّة أكثر ما أمكن فيها من التوثيق حتى كادت تصير علميّة. ولاتزال هكذا إلى أن تصير الحال في الفلسفة إلى ما كانت عليه في زمن أفلاطون. (143) ثمّ يُتداوَل ذلك إلى أن يستقرّ الأمر على ما استقرّ عليه أيام أرسطوطاليس. فيتناهى النظر العلميّ وتُميَّز الطرق كلها وتكمل الفلسفة النظريّة والعامّيّة الكليّة، ولايبقى فيها موضع فحص، فتصير صناعة تُتعلم فقط،ويكون تعليمها تعليما خاصا وتعليما مشتركا للجميع. فالتعليم الخاصّ هو بالطرق البرهانيّة فقط، و المشترك الذي هو العامّ فهو بالطرق الجدليّة أو بالخطبية او بالشعريّة.
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:45 am | |
|
غير أن الخطبيّة والشعريّة هما أحرى ان تُستعمَلا في تعليم الجمهور ماقد استقرّ الرأي فيه ويصح بالبرهان من الأشياء النظريّة والعمليّة. (144) ومن بعد هذه كلّها يُحتاج إلى وضع النواميس، وتعليم الجمهور ما قد استُنبط وفُرغ منه وصُحّح بالبراهين من الأمور النظريّة، وما استُنبط بقوّة التعقّل من الأمور العلميّة. وصناعة وضعالنواميس فهي بالاقتدار على جودة تخييل ماعسر على الجمهور تصوّره من المعقولات النظريّة، وعلى جودة استنباط شيء شيءمن الأفعال المدنيّة النافعة في بلوغ السعادة، و على جودةالإقناع في الأمور النظريّة والعلميّة التي سبيلها أن يعلَّمها الجمهور بجميعطرق الإقناع. فإذا وُضعت النواميس في هذين الصنفين وانضاف إليها الطرق التي بها يُقنَع ويُعلَّم ويؤدَّب الجمهور فقد حصلت الملّة التي بها عُلّم الجمهور وأُدّبوا وأُخذوا بكلّ ما ينالون به السعادة. (145)فإذا حدث بعد ذلك قوم يتأمّلون ما تشتمل عليه الملّة،وكان فيهممَن يأخذ ما صرّح به في الملّة واضعُها من الأشياء العمليّة الجزئيّة مسلَّمة ويلتمس أن يستنبط عنها ما لم يتّفق أن يصرّح به، محتذيا بما يستنبط من ذلك حذو غرضه بما صرّح به،حدثت من ذلك صناعة الفقه. فإن رام مع ذلك قوم أن يستنبطوا من الأمور النظريّة والعمليّة الكلّيّة ما لم يصرّح به واضع الملّة أوغير ما صرّح به منها، محتذين فيها حذوه فيما صرّح به،حدثتمن ذلك صناعة مّا أخرى، وتلك صناعةالكلام. وإن اتّفق أن يكون هناك قوم يرومون إبطال ما في هذه الملّة، احتاج أهل الكلام إلى قوّة ينصرون بها تلك الملّة ويناقضون اللذين يخالفونها ويناقضون الأغاليط التي التُمس بها إبطال ما صُرّح به في الملّة، فتكمل بذلك صناعة الكلام. فتحصل صناعة هاتين القوّتين. وبيّن أنّه ليس يمكن ذلك إلاّ بالطرق المشتركة وهي الطرق الخطبيّة. (146) فعلى هذا الترتيب تحدث الصنائع القياسيّة في الأمم متى حدثت عن قرائحهم أنفسهم وفِطَرهم. الفصل الرابع والعشرون: الصلة بين الملّة والفلسفة (147) فإذا كانت الملّة تابعة للفلسفة التي كملت بعد أن تميّزت الصنائع القياسيّة بعضها عن بعض على الجهة والترتيب الذي اقتضينا كانت ملّة صحيحة في غاية الجودة. فأمّا إذا كانت الفلسفة لم تصر بعد برهانيّة يقينيّة في غاية الجودة، بل كانت بعد تُصحَّح آراؤها بالخطبيّة أو الجدليّة أو السوفسطائيّة، لم يمتنع أن تقع فيها كلّها أو في جلّها أو في أ كثرها آراء كلّها كاذبة لم يُشعَر بها، وكانت فلسفة مظنونة أو مموّهة. فإذا أُنشئت ملّة مّا بعد ذلك تابعة لتلك الفلسفة، وقعت فيها آراء كاذبة كثيرة. فإذا أُخذ أيضا كثير من تلك الآراء الكاذبة وأُخذت مثالاتها مكانها، على ما هو شأن الملّة فيما عسر وعسر تصوّره على الجمهور، كانت تلك أبعد الحقّ أ كثر وكانت ملّة فاسدة ولا يُشعَر فسادها. وأشدّ من تلك فسادا أن يأتي بعد ذلك واضع نواميس فلا يأخذ الآراء في ملّته من الفلسفة التي يتّفق أن تكون في زمانه بل يأخذ الآراء الموضوعة في الملّة الأولى على أنّها هي الحقّ، فيحصلها ويأخذ مثالاتها ويعلّمها الجمهور، وإن جاء بعده واضع نواميس آخر فيتبع هذا الثاني، كان أشدّ فسادا. فالملّة الصحيحة إنّما تحصل في الأمّة متى كان حصولها فيهم على الجهة الأولى، والملّة الفاسدة تحصل فيهم متى كان حصولها على الجهة الثانية. إلاّ أنّ الملّة على الجهتين إنّما تحدث بعد الفلسفة، إمّا بعد الفلسفة اليقينيّة التي هي الفلسفة في الحقيقة وأمّا بعد الفلسفة المظنونة التي يُظَنّ بها أنّها فلسفة من غير أن تكون فلسفة في الحقيقة، وذلك متى كان حدوثها فيهم عن قرائحهم وفِطَرهم ومن أنفسهم. (148) وأمّا إن نُقلت الملّة من أمّة كانت لها تلك الملّة إلى أمّة لم تكن لها ملّة، أو أُخذت كانت لأمّة فأُصلحت فزيد فيها أو أُنقص منها أو غُيّرت آخر فجُعلت لأمّة أخرى فأُدّبوا بها وعُلّموها ودُبّروا بها، أمكن أن تحدث الملّة فيهم قبل أن تحصل الفلسفة وقبل أن يحصل الجدل والسوفسطائيّة، والفلسفة التي لم تحدث فيهم عن قرائحهم ولكن نُقلت إليهم عن قوم آخرين كانت هذه فيهم قبل ذلك، أمكن أن تحدث فيهم بعد الملّة المنقولة إليهم. (149) فإذاكانت الملّة تابعة لفلسفة كاملة وكانت الأمور النظريّة التي فيها غير موضوعة فيها كما هي في الفلسفة بتلك الألفاظ التي يعبَّر بها عنها بل إنّما كانت قد أُخذت مثالاتها مكانها إمّا في كلّها أو في أ كثرها، ونُقلت تلك الملّة إلى أمّة أخرى منغير أن يعرفوا أنّها تابعة لفلسفة ولا أنّ ما فيها مثالات لأمور نظريّة صحّت في الفلسفة ببراهين يقينيّة بل سُكت عن ذلك حتّى ظنّت تلك الأمّة أنّ المثالات التي تشتمل عليها تلك الملّة هي الحقّ وأنّها هي الأمور النظريّة أنفسها، ثمّ نُقلت إليهم بعد ذلك الفلسفة التي هذه الملّة تابعة لها في الجودة، لم يؤمَن أن تضادّ تلك الملّة الفلسفة ويعاندها أهلها ويطّرحونها،
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:46 am | |
|
ويعاند أهل ُ الفلسفة تلك الملّة ما لم يعلموا أنّ تلك الملّة مثالات لما في الفلسفة. ومتى علموا أنّها مثالات لما فيها لم يعاندوها هم ولكنّ أهل الملّة يعاندون أهل تلك الفلسفة. ولا تكون للفلسفة ولا لأهلها رئاسة على تلك الملّة ولا على أهلها بل تكون مطّرَحة وأهلها مطّرَحة، ولا يلحق الملّة كثير نصرة من الفلسفة، ولا يؤمَن أن تلحق الفلسفة وأهلها مَضرَّة عظيمة من تلك الملّة وأهلها. فلذلك ربّما اضطر أهل الفلسفة عند ذلك إلى معاندة أهل الملّة طلبا لسلامة أهل الفلسفة. ويتحرّون أن لا يعاندواالملّة نفسها بل إنّما يعاندونهم في ظنّهم أنّ الملّة مضادّةللفلسفة ويجتهدون في أن يُزيلوا عنهم هذا الظنّ بأن يلتمسوا تفهيمهم أنّ التي في ملّتهم هي مثالات. (150) وإذا كانت الملّة تابعة لفلسفة هي فلسفة فاسدة ثمّ نُقلت إليهم بعد ذلك الفلسفة الصحيحة البرهانيّة، كانت الفلسفة معاندة لتلك الملّة من كلّ الجهات وكانت الملّة معاندة بالكلّيّة للفلسفة. فكلّ واحدة منهما تروم إبطال الأخرى، فأيّتهما غلبت وتمكّنت في النفوس أبطلت الأخرى أو أيّتهما قهرت تلك الأمّة أبطلت عنها الأخرى. (151) وإذا نُقل الجدل أو السوفسطائيّة إلى أمّة لها ملّة مستقرّة ممكَّنة فيهم فإنّ كلّ واحد منهما ضارّ لتلك الملّة ويهوّنها في نفوس المعتقدين لها، إذ كانت قوّة كلّ واحدة منهما فعلها إثبات الشيء أو إبطال الشيء أو إبطال ذلك الشيء بعينه. فلذلك صار استعمال الطرق الجدليّة والسوفسطائيّة في الآراء التي تمكّنت في النفوس عن الملّة يُزيل تمكّنها ويوقع فيها شكوكاويجعلها بمنزلة مالم يصحّ بعد ويُنتظَر صحّتها، أو يُتحيَّر فيها حتّى يُظَنّ أنّها لا تصحّ هي ولا ضدّها. ولذلك صار حال واضعي النواميس ينهون عن الجدل والسوفسطائيّة ويمنعون منهما أشدّ المنع. وكذلك الملوك الذين رُتّبوا لحفظ الملّة - أيّ ملّة كانت - فإنّهم يشدّدون في منع أهلها ذينك ويحذّرونهم إيّاهما أشدّ تحذير. (152) فأمّا الفلسفة فإنّ قوما منهم حنوا عليها. وقوم أطلقوا فيها. وقوم منهم سكتوا عنها. وقوم منهم نهوا عنها، إمّا لأنّ تلك الأمّة ليس سبيلها أن تُعلَّم صريح الحقّ ولا الأمور النظريّة كما هي بل يكون سبيلها بحسب فِطَر أهلها أو بحسب الغرض فيها أو منها أن لا تطّلع على الحقّ نفسه بل إنّما تؤدَّب بمثالات الحقّ فقط أو كانت الأمّة أمّة سبيلها أن تؤدَّب بالأفعال والأعمال والأشياء العمليّة فقط لا بالأمور النظريّة أوبالشيء اليسير منها فقط، وإمّا لأنّ الملّة التي أتى بها كانت فاسدة جاهليّة لم يلتمس بها السعادة لهم بل يلتمس واضعها سعادة ذاته وأراد أن يستعملها فيما يسعد هو به فقط دونهم فخشى أن تقف الأمّة على فسادها وفساد ما التمس تمكينه في نفوسهم متى أطلق لهم النظر في الفلسفة. (153) وظاهر في كلّ ملّة كانت معاندة للفلسفة فإنّ صناعة الكلام فيها تكون معاندة للفلسفة، وأهلها يكونون معاندين لأهلها، على مقدار معاندة تلك الملّة للفلسفة. الفصل الخامس والعشرون: اختراع الأسماء ونقلها (154) فإذا حدث ملّة في أمّة لم تكن لها ملّة قبلها ولم تكن تلك ملّة لأمّة أخرى قبلها، فإنّ الشرائع التي فيها بيّن أنّها لم تكن معلومة قبل ذلك عند تلك الأمّة، ولذلك لم تكن لها عندهم أسماء. فإذا احتاج واضع الملّة إلى أن يجعل لها أسماء فإمّا أن يخترع لها أسماء لم تكن تُعرَف عندهم قبله وإمّا أن ينقل إليها أسماء أقرب الأشياء التي لها أسماء عندهم شبها بالشرائع التي وضعها. فإن كانت لهم قبلها ملّة أخرى فربّما استعمل أسماء شرائع تلك الملّة الأولى منقولة إلى أشباهها من شرائع ملّته. فإن كانت ملّته أو بعضها منقولة عن أمّة أخرى فربّما استعمل أسماء ما نُقل من شرائعهم في الدلالة عليها بعد أن يغيّر تلك الألفاظ تغييرا تصير بها حروفُها وبِنْيَتُها حروفَ أمّته وبنيتَها ليسهل النطق بها عندهم. ولإن حدث فيهم الجدل والسوفسطائيّة واحتاج أهلها إلى أنينطقوا عن معان استنبطوها لم تكن لهاعندهم أسماء، إذ لم تكن معلومة عندهم قبل ذلك،
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:47 am | |
| فإمّااخترعوا لها ألفاظا من حروفهم وإمّا نقلوا إليها أسماء أقرب الأشياء شبها بها. وكذلك إن حدثت الفلسفة احتاج أهلها ضرورة إلى أن ينطقوا عن معان لم تكن عندهم معلولة قبل ذلك، فيفعلون فيها أحد ذينك. (155) فإن كانت الفلسفة قد انتقلت إليهم من أمّة أخرى، فإنّ على أهلها أن ينظروا إلى الألفاظ التي كانت الأمّة الأولى تعبّر بها عن معاني الفلسفة ويعرفوا عن أيّ معنى من المعاني المشتركة معرفتها عند الأمّتين هي منقولة عند الأمّة الأولى. فإذا عرفوها أخذوا من ألفاظ أمّتهم الألفاظ التي كانوا يعبّرون بها عن تلك المعاني العاميّة بأعيانها، فيجعلوها أسماء تلك المعاني من معاني الفلسفة. فإن وُجدت فيها معان نقلت إليها الأمّة الأولى أسماء معان عاميّة عندهم غير معلومة عند الأمّة الثانية وليس لها عندهم لذلك أسماء، وكانت تلك المعاني بأعيانها تشبه معان أخر عامّيّة معلومة عند الثانية ولها عندهم ألفاظ، فالأفضل أن يطّرحوا أسماءها وينظروا إلى أقرب الأشياء شبها بها من المعاني العامّيّة عندهم فيأخذوا ألفاظها ويسمّوا بها تلك المعاني الفلسفيّة. وإن وُجدت فيها معان سُمّيت عند الأولى بأسماء أقرب الأشياء العامّيّة شبها بها عندهم وعلى حسب تخيّلهم الأشياء، وكانت تلك المعاني الفلسفيّة أقرب شبها عند الأمّة الثانية على حسب تخيّلهم للأشياء بمعان عامّيّة أخرى غير تلك، فينبغي أن لا تسمّى عند الأمّة الثانية بأسمائها عند الأمّة الأولى ولا يُتكلَّم بها عند الأمّة الثانية. فإن كانت فيها معان لا توجد عند الأمّة الثانية معان عامّيّة تشبهها أصلا - على أنّ هذا لا يكاد يوجد - فإمّا أن تُخترَع لها ألفاظ من حروفهم، وإمّا أن يُشرَك بينها وبين معان أخر - كيف اتّفقت - في العبارة، وإمّا أن يعبَّر بها بألفاظ الأمّة الأولى بعد أن تُغيَّر تغييرا يسهل به على الأمّة الثانية النطق بها.ويكون هذا المعنى غريبا جدّا عند الأمّة الثانية، إذ لم يكن عندهم لا هو ولا شبهه. وإن اتّفق أن كان معنى فلسفيّ يشبه معنيين من المعاني العامّيّة، ولكلّ واحد منهما اسم عند الأمّتين، وكان أقرب شبها بأحدهما، وكانت تسميتها له باسم الذي هو أقرب شبها به، فينبغي أن يسمّى ذلك باسم ما هو أقرب شبها به. (156) والفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيّين. وقد تحرّى الذي نقلها في تسميّة المعاني التي فيها أن يسلك الطرق التي ذكرناها. ونحن نجد المسرفين والمبالغين في أن تكون العبارة عنها كلّها بالعربيّة. وقد يُشركوا بينها . منها أن يجعلوا لهذين المعنيين اسما بالعربيّة: فإنّ الأسطقس سمّوه " العنصر " وسمّوا الهيولى " العنصر " أيضا - وأمّا الأسطقس فلا يسمّى " المادّة " و" هيولى " - وربّما استعملوا " الهيولى " وربّما استعملوا " العنصر " مكان "الهيولى". غير أنّ التي تركوها على أسمائها اليونانيّة هي أشياء قليلة. فما كان من المعاني الفلسفيّة جرى أمر التسمية فيها على المذهب الأوّل فتلك المعاني يقال إنّها مأخوذة من حيث هي معان مدلول عليها بألفاظ الأمّتين. وإن كانت المعاني العامّيّة التي منها نُقلت إلى المعاني الفلسفيّة أسماؤها مشتركة لجميع الأمم كانت تلك المعاني الفلسفيّة مأخوذة من حيث تدلّ عليها ألفاظ الأمم كلّها. وما جرى أمر التسمية فيها على المذاهب الباقية فإنّها مأخوذة من حيث تدلّ عليها ألفاظ الأمّة الثانية فقط. (157) وينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفيّة إمّا غير مدلول عليها بلفظ أصلا بل من حيث هي معقولة فقط، وإمّا إن أُخذت مدلولا عليها بالألفاظ فإنّما ينبغي أن تؤخذ مدلولا عليها بألفاظ أيّ أمّة اتّفقت والاحتفاظ فيها عندما يُنطَق بها وقت التعليم لشبهها بالمعاني العامّيّة التي منها نُقلت ألفاظها. وربّما خُلطت بها وأُوهم فيها أنّها هي المعاني العامّيّة بأعيانها في العدد وأنّها مواطئة لها في ألفاظها. فلذلك رأى قوم أن لا يعبّروا عنها بألفاظ أشباهها بل رأوا أنّ الأفضل هو أن تُجعَل لها أسماء مخترَعة لك تكن قبل ذلك مستعمَلة عندهم في الدلالة على شيء أصلا، مركَّبة من حروفهم على عاداتهم في أشكال ألفاظهم. ولكنّ هذه الوجوه من الشبه لها غَناء مّا عند تعليم الوارد على الصناعة في سرعة تفهيمه لتلك المعاني متى كانت العبارة عنها بألفاظ أشباهها من المعاني التي عرفها قبل وروده على الصناعة. غير أنّه ينبغي أن يُتحرَّز من أن تصير مغلطة على مثال ما يُتحرَّز به من تغليط الأسماء التي تقال باشتراك. (158) والألفاظ المنقولة عن المعاني العامّيّة إلى المعاني الفلسفيّة فإنّ كثيرا منها يستعملها الجمهور مشتركة لمعان عامّيّة كثيرة وتُستعمَل في الفلسفة أيضا مشتركة لمعان كثيرة.
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:49 am | |
|
والمعاني التي تشترك في اسم واحد منها ما هي صفة في ذلك الاسم المشترك؛ ومنها ما لها نِسَب متشابهة إلى أشياء كثيرة؛ ومنها ما يُنسَب إلى أمر واحد على الترتيب، وذلك إمّا أن تكون رتبتها من ذلك الواحد رتبة واحدة وإمّا أن تكون رتبتها منه متفاضلة بأن يكون بعضها أقرب رتبة إليه وبعضها أبعد منه. وكلّ واحد من هذين إمّا أن تسمّى هي باسمٍ واحد غير اسم الأمر الواحد الذي إليه نُسبتوإمّا أن تسمّى هي وذلك الأمر معا باسمٍ واحد بعينه. ويكون ذلك الأمر الواحد أشدّها تقدّما. وتقدّمه قد يكون في الوجود وقد يكون في المعرفة. فالذي يرتّب كلّ واحد منها إذا كان في المعرفة، وتقاس إلى الواحد الذي هو أعرف، فإذن أعرف كلّ اثنين منهما وأقربهما في المعرفة إلى ذلك الواحد الذي هو أعرفها كلّها هو أشدّهما تقدّما، ولا سيّما إذا كان مع أنّه أعرف سببا أيضا لأنيُعرَف أو عُرف به الآخر. وأحراها بذلك الاسم أو أحراها بأن يُجعَل له ذلك الاسم بإطلاق ذلك الواحد إذا كان أيضا سُمّي باسم تلك، ثمّ أولى الباقية ما كان أعرف أو كان أعرف وسببا لأن تُعرَف به الأخر، إلى أن يؤتى على جميع ما يسمّى بذلك الاسم. وعلى هذا المثال إذا كان فيها واحد هو أقدمفي الوجود أو كان مع ذلك سببا لوجود الباقية فإنّه أحقّ وأولى بذلك الاسم على الإطلاق، ثمّ كلّ ما كان أقرب في الوجود إلى ذلك الواحد، ثمّ الأقرب فالأقرب، أحقّ بذلك الاسم، ولا سيّما إذا كان أكمل اثنين منهما سببا لوجود الآخر، فإنّه أحقّ بذلك الاسم من الآخر. وقد يتّفق في كثير من الأمور أن يكون الأقدم في المعرفة هو أشد تأخّرا في الوجود والآخر منهما أشدّ تقدّما في الوجود، فيكون اسما لها واحدا لأجل تشابه نِسَبها إلى أشياء كثيرة، أو لأجل على أنّها تُنسَب إلى شيء واحد - إمّا بتساو أو بتفاضل، كان ذلك الواحد يسمّى باسمها هي أو كان يسمّى باسمٍ غير اسمها. وهذه غير المتّفقة أسماؤها وغير المتواطئة أسماؤها، وهي متوسّطة بينهما، وقد تسمّى المشكَّكة أسماؤها.
البابُ الثالِث حرُوفُ السّؤَال الفصل السادس والعشرون أنواع المخاطبات (159) وكلّ مخاطبة وكلّ قول يخاطب به الإنسان غيره فهو إما يقتضي به شيئا مّا وإمّا يعطيه به شيئا مّا. والذي يعطي به الإنسان غيره شيئا مّا فهو قول جازم إمّا إيجاب وإمّا سلب، حمليّ أو شرطيّ، ومنه التعجّب، ومنه التمنّي، ومنه سائر الأقاويل التي تأليفها أو شكلها يدلّ على انفعال آخر مقرون به، إن كان في لسان من الألسنة تأليف أو بِنْيَة لقول يُدَلّ به على انفعال مقرون به. وقوم من الناس يمارون في التعجّب والتمنّي. فبعضهم يجعلها نوعا آخر من الأقاويل سوى الجازم، وبعضهم يجعلها من الجازم ويجعل ما قُرن به وما يُخبَر به في تأليفه أو في شكله جهة من الجهات . والقول الذي يٌقتضى به شيء مّا فهو يُقتضى به إما قول مّا وإمّا فعل شيء مّا. والذي يُقتضى به فعل شيء مّا فمنه نداء، ومنه تضرّع، وطِلْبَة، وإذْن، ومَنْع، ومنه حَثّ، وكَفّ، وأمْر، ونَهْي. (160) فإنّ النداء يُقتضى به أوّلا من الذي نوُدي الإقبال بسمعه وذهنه على الذي ناداه منتظرا لما يخاطبه به بعد النداء. وهو نفسه لفظة مفردة قُرن بها حرف النداء. وإنّما يكون حرفا من الحروف المصوَّتة التي يمكن أن يُمَدّ الصوت بها إذا احتيج به إلى ذلك لبعد المنادى أو لثقل في سمعه أو لشغل نفسه بما يُذهله عن المنادي. فقوّته قوّة قول تامّ يُقتضى به من الذي نودي الإصغاء بسمعه وذهنه، ثمّ الإقبال وِجْهَة الذي ناداه الذي هو في المشهور دليل على الإصغاء التامّ. والنداء يتقدّم بالزمان كلّ ما سواه من أنواع المخاطبة. (161) ثمّ يردّ بعده النوع الذي هو مقصود الإنسان من المخاطبات من اقتضاء أو إعطاء. والقول الذي يُعطى به شيء مّا قد يبتدئبه الإنسان ابتداء من غير أن يكون قد اقتضاه ذلك آخرُ، وقد يكون يُقتضى عن اقتضاء لهسبق. فالذي يكون عن اقتضاء له سابق هو جواب. والمقول المقتضى بيّن أنّه إنّما يكون من الإنسان الذي اقتضاه بنطق مّا، والنطق بالقول هو فعل مّا، واقتضاء النطق إنّما يكون بأحد تلك الأقاويل الأخر التي تقتضي فعلا. والقول غير النطق به. فإنّ القول مركَّب من ألفاظ، والنطق والتكلّم هو استعماله تلك الألفاظ والأقاويل وإظهارها باللسان والتصويت بها ملتمسا الدلالة بها على ما في ضميره. فالنطق فعل مّا، واقتضاء النطق هو اقتضاء فعل مّا، وهو داخل تحت أحد تلك الأخر. فاقتضاء النطق بالقول غير اقتضاء القول، وإن كان يلزم كلّ واحد منهما عن الآخر، فاقتضاء القول هو السؤال، واقتضاء النطق هو شيء آخر،
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:50 am | |
|
غير أنّه قوّته في كثير من الأوقات قوّة سؤال عن الشيء. ولذلك صار قولنا " تكلَّم يا وزّان بكذا وكذا " و " أعْلِمْني وأخْبِرْني عن كذا وكذا " قوّته قوّة السؤال عن الشيء. وكلّ مخاطبة يُقتضى بها شيء مّا فلها جواب. فجواب النداء إقبال أو إعراض، وجواب التضرّع والطِلْبة بذل أو منع، وجواب الأمر والنهي وما شاكله طاعة أو معصية، وجواب السؤال عن الشيء إيجاب أو سلب - وهما جميعا قول جازم. والمخاطبة التي يُعطى بها الإنسان شيئا المبتدأ بها لا عن اقتضاء لها هو أيضا قول جازم. ( (162) والمخاطبة العلميّة يُقتضى بها علم شيء أو يفاد بها علم شيء مّا. وهي بضربين من الأقاويل، إمّا السؤال عن الشيء، وإمّا القول الجازم وإمّا جواب عن السؤال وإمّا ابتداء. والعلم الذي يُقتضى أن يقال إمّا أن يُعتقَد شيء مّا ويُتصوَّر ويقام معناه في النفس، وإمّا أن يُعتقَد وجوده، أو وجوده وسبب وجوده. وليس ههنا علم آخر غير هذه الثلاثة. (163) وحروف السؤال كثيرة: " ما " و " أيّ " و " هل " و " لِمَ " و " كيف " و " كم " و " أين " و " متى ". وهذه وجلّ الألفاظ قد تُستعمَل دالّة على معانيها التي للدلالة عليها وُضعت منذ أوّل ما وُضعت، وتُستعمَل على معان أخر على اتّساع ومجازا واستعارة، واستعمالها مجازا واستعارة هو بعد أن تُستعمَل دالّة على معانيها التي لها وُضعت من أوّل ما وُضعت. (164) والخطابة والشعر فإنّ الألفاظ تُستعمَل فيهما بالنوعين جميعا. وأمّا الفلسفة والجدل والسوفسطائيّة فلا تُستعمَل فيها إلاّ على المعاني الأولى التي لأجلها وُضعت أوّلا. وما استُعمل في السوفسطائيّة من الاستعارة والمجاز فإنّما يُستعمَل ليُوهم فيها أنّها استُعملت على ما استُعملت عليه على انّها إنّما وُضعت عليها من أوّل الأمر. ولا يُستعمَل المستعار في السوفسطائيّة على أنّه مستعار بلعلى أنّه في الوضع الأوّل، وإنّما يُستعمَل المستعار فيها إذن بالعرض، ولذلك يُستعمَل عند الخطابة بها. وما استُعمل منها في الجدل فإنّما يُستعمَل منها الشيء اليسير لزينة الكلام عند السؤال والجواب، لا على أنّه جدليّ بذاته وأولى، لكن على أنّه خطبيّ استُعمل منه شيء مّا للحاجة إليه في وقت مّا، على مثال ما يجوز لإنسان مّا أن يتمثّل ببيت من الشعر عندما يخطب أو عندما يعلّم أو عندما يجادل، لا على أنّه بذاته وأوْلى من تلك الصناعة، بل بالعرض وثانيا. والفلسفة فلا يُستعمَل في شيء منها لفظ إلاّ على المعنى الذي لأجله وُضع أوّلا، لا على معناه الذي له استُعير أو تُجُوِّز به وسومح في العبارة به عنه. (165) ونحن إذا تأمّلنا ما تدلّ عليه الألفاظ المشهورة فإنّما نتأمّل الأمكنة التي فيها يُستعمَل شيء شيء منها عند مخاطبة بعضنا بعضا في الدلالة على المعاني المشهورة التي للدلالة عليها أوّلا وُضعت تلك الألفاظ. فإذا أخذنا منها الأسماء المنقولة إلى المعاني الفلسفيّة فإنّا إنّما نأخذ معانيها التي للدلالة عليها أوّلا نُقلت لا التي استُعملت بعد نقلهم إيّاها استعارة ومجازا واتّساعا لتعلّق كثير من المعاني وشبهها بالمعاني الفلسفيّة التي إليها أوّلا كانت نُقلت. فإنّه قد عرض ذلك لكثير من الألفاظ المشهورة التي كانت أوّلا دالّة على معان عامّيّة، ثمّ نُقلت فجُعلت مع ذلك لمعان فلسفيّة، ثمّ أخذها قوم من الخطباء والشعراء وسائر الناس فاستعملوها على معان أخر تشبه تلك الفلسفيّة أو تتعلّق بها ضربا من التعلّق على جهة الاستعارة والتجوّز والمسامحة. الفصل السابع والعشرون: حرف ما (166) فمن ذلك حرف " ما " الذي يُستعمَل في السؤال، فإنّه وما قام مقامه في سائر الألسنة إنّما وُضع أوّلا للدلالة على السؤال عن شيء مّا مفرد. وينبغي أن يتأمّل الشيء الذي عنه يسأل بهذا الحرف - وهو الذي كان يجهله فطلب بهذا الحرف علمه - وأيّ طرف من العلوم طلبه - وهو بعينه نوع العلم الذي يستفيده من الطلب - فيُحصي الأمكنة التي يُستعمَل فيها. و هذا الحرف قد يُقرَن باللفظ المفرد والذي للدلالة عليه أوّلا وضعنا اللفظ دالاّ عليه، وهو الشيء الذي جُعل ذلك اللفظ دالاّ عليه، فإنّ " الشيء " هو أعمّ ما يمكن أن نعلمه. فإذا عُلم أنّه دالّ على شيء مّا، فإنّما جُهل الشيء الذي جُعل نِدّا له، كقول القائل " ما معنى "، إذا اتّفق أن علم أنّه اسم دالّ على شيء. وقد يُقرَن بمحسوس أُدرك ما أُحسّ فيه من الأحوال أو الأعراض في الجملة، وجُهل منه شيء آخر، كقولنا " ما الذي نراه " و " ما الذي بين يديك ". وقد يُقرَن باسمٍ معقول المعنى عُرف ضربا من المعرفة، كقولنا " الإنسان ما هو "، فيُطلَب معرفته وإقامة معناه في النفس وأن تحصل ذاته معقولة بضرب أزيد ممّا عُرف به أوّلا.
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:52 am | |
| وينبغي أن نُحصي الأمكنة التي فيها يُستعمَل هذا الحرف سؤالا ونعرّف في كلّ واحد منها عمّاذا يُسأل وأيّ علم يُطلَب فيه. (167) فمنها أنّا نقول " ما هذا المرئيّ " و " ما هذا الذي بين يديك " و " ما ذاك السواد الذي نراه من بعيد " و " ما ذاك الذي كأنّه يتحرّك " وبالجملة " ما هذا المحسوس " فيُقرَن حرف " ما " بمحسوس - أيّ محسوس كان وبأيّ حاسّة أحسسناه - وبأمر مشار إليه. فالذي سبيله أن يجاب به عن مثل هذا السؤال هو بعض الكلّيّات التي هي صفات لذلك الشيء المسؤول عنه. فإنّا نقول فيه " إنّه نخلة " ونقول فيه " إنّه شجرة " و " إنّه نبات " و " إنّه جسم مّا "، فتكون هذه كلّيّات متفاضلة في العموم يليق أن يجاب بكلّ واحد منها في جواب " ما هو هذا المرئيّ ". وأيّ اثنين منها أخذته فإنّ الأخصّ منهما يسمّى نوعا والأعمّ يسمّى جنسا، لالأنّ الذي يسمّى جنسا لم يكن يجوز أن يسمّى بالنوع أو بغيره من الألفاظ، لكن وُضع وضعا أن يكون الأخصّ يسمّى نوعا والأعمّ منها يسمّى جنسا. وإذا قويس بينها فوُجد فيها شيء هو أخصّ لا أخصّ منه، وشيء هو أعمّ لا أعمّ منه، وشيء أو أشياء متوسّطة هي أخصّ من بعض وأعمّ من بعض، سُمّي الأخصّ الذي لا أخصّ منه " نوعا " بالإطلاق و " نوعا أخيرا " و " نوع الأنواع "، وسُمّي الأعمّ الذي لا أعمّ منه " جنسا " بالإطلاق و " جنسا عاليا " و " جنس الأجناس "، والذي هو أعمّ من شيء منهما وأخصّ من الآخر منهما يسمّى نوعا وجنسا - نوعا لما هو أخصّ منه وجنسا لما هو أعمّ منه - و " نوعا متوسّطا " و " جنسا متوسّطا ". وقد يجاب عن هذا السؤال بقول مؤلَّف من جنس لذلك المسؤول عنه يقيَّد بصفات ومحمولات أخر. مثل أن يقال لنا " هو شجرة تحمل الرطب " أو " هي الشجرة التي تُثمر التمر ". أو إن اتّفق أن كان المسؤول عنه حائطا فإنّه قد يجاب " إنّه حائط " أو يجاب بأنّه " جسم متصلّب ذو سُمْك مؤتلف من حجارة أو لبن أو طين أُعدّ ليحمل السقف ويصون من الرياح "، فيقوم ذلك مقام قولنا " إنّه حائط ". فإنّ الحائط هو نوع الشخص المسؤول عنه، والقول الذي أُقيم مقامه هو حدّ الحائط وهو حدّ النوع المسؤول عنه، وإنّما يكون ذلك القول أبدا مؤتلفا من حدّ النوع ومن الأشياء التي بها أو لها قوام ذلك النوع. وما يدلّ عليه حدّ النوع هو ماهيّته، والذي يدلّ عليه جزء جزء من أجزاء القول هو جزء ماهيّته. (168) وقد يُقرَن حرف " ما " بنوع من الأنواع عد أن فهمنا ما يدلّ عليه اسمه الذي وُضع أوّلا دالاّ عليه. فنقول " الإنسان ما هو " و " النخلة ما هي "، فيجاب عنه بجنس ذلك النوع أو حدّه. فإنّه قد يقال لنا في الإنسان " إنّه حيوان " أو " إنّه حيوان ناطق "، وفي النخلة " إنّها شجرة تحمل الرطب ". ويقال " ما العباءة "، فيقال " هي ثوب من الصوف "، فالثوب جنسه، وقولنا " ثوب من صوف " حدّه. وما يُفهَم من القول ماهيّته والأشياء التي بها قوامه وجزء ماهيّة جنسه، ثمّ ما يقيَّد به جنسه ممّا به قوامه. والذي يُردَف به جنسه، فليس يجاب به وحده في جواب " ما هو الشيء "، بل إنّما يكون جوابا عن " ما هو الشيء " متى أُردف به أو قُيّد الجنس، فإنّه في " ما هو الشيء " ينفرد جنسا ومقيَّدا بشيء آخر حينا. ولو أُردف جنسه بشيء ممّا يوجد له غير أنّه ليس به قوام ذاته ولا يعرّف ما هو ذلك الشيء أصلا، لم يكن القول حدّا، كما لو قيل في العباءة " إنّها الثوب الذي يلبسه المترهّبون وأهل الصنائع القَشِفة مثل الملاّحين والفلاّحين " لكان تعريفا للعباءة لكن لا يحدّ العباءة، ولا كان ما يدلّ عليه القول هو ماهيّة العباءة وإن كان ممّا يوصف به العباءة، بل كان صفة له لا محمولا عليه لا يعرّف ما هو بل يعرّف منه شيئا خارجا عن ذاته. وكذلك لو قيل في الإنسان " إنّه الحيوان الذي يصلح أن يتّجر ويبيع ويشتري " لكان تعريفا للإنسان لا يحدّه. والقدماء يسمّون هذا الصنف من الأقاويل المعرّفة للشيء " الرسم " ويسمّون بالجملة صفاته ومحمولاته التي لا تعرّف ما هو بل تعرّف منه شيئا خارجا عن ذاته وشيئا ليس به قوامه" أعراض " ذلك الشيء. وكلّ واحد من هذه التي يليق أن يجاب بها في جواب " ما هو الشيء " يُفهم الشيء المسؤول عنه ويُفهم معناه في النفس، ويتصوّره الإنسان به ويحصل له في النفس معقول مّا. غير أنّ جنس الشيء يصوّره في النفس ويُفهمه بوجه يعمّه وغيرَه، ونوعه يُفهمه بوجه أخصّ من جنسه. وجنسه كلّما كان أبعد وأعمّ كان تفهيمه للشيء وتصويره له في النفس بوجه أعمّ وأبعد عنه. وحدّه يصيّره معقولا ويُفهمه بأجزائه التي بها قوامه. فإنّ النوع المسؤول إذا عُقل بما يدلّ عليه اسمه فإنّما يُعقَل الشيء مجمَلا غير ملخَّص بأجزائه التي بها قوامه. وإذا عُقل بما يدلّ عليه حدّه فقد عقل ملخَّصا بالأشياء التي قوامه بها، وذلك هو أ كمل ما يُعقَل به الشيء الذي يمكن أن يُعقَل على هذه الأنحاء.
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:53 am | |
| ورسمه أيضا يُفهم الشيء ملخَّصا بصفاته التي ليس بها قوام الشيء وبالتي هي خارجة عن ذات الشيء، وهي أعراضه. وأنقص ما يُفهَم به الشيء هو أن يُفهَم بأبعد أجناسه أو أن يُفهَم بأبعد محمولاته عن ماهيّته أو جزء ماهيّته. وأ كمل ما يُفهَم به الشيء هو حدّه. والأشياء الخارجة عن ذاته وصفاتُه التي لا تُفهَم ماهو والتي ليس بها قوام ذاته - وهي أعراضه - بعضها أقرب إلى ذاته وبعضها أبعد عن ذاته. مثل أن يقال في النخلة " إنّها الشجرة التي تكتسي الليف والتي تورق الخوص " أو " التي أغصانها سعف " أو " التي تكون في البلدان الحارّة "، فإنّ بعض هذه أبعد عن ذاتها وبعضها أقرب إلى ذاتها، وكلّ ذلك يُفهم الشيء ويصوّره في النفس - بعضها أ كمل وبعضها أنقص - لكن بما هي غريبة عن ذاته. (169) وقد يُقرَن حرف " ما " بلفظ مفرد عُلم أنّه دالّ على شيء مّا، غير أنّه لم يُعلَم النوع والجنس الذي هو دالّ عليه أوّلا، وإنّما يُلتمَس به تفهم معنى النوع الذي يدلّ عليه ذلك اللفظ وتصوّره وإقامته في النفس. فإن كان السائل عرف ذلك النوع وتصوّره باسم له آخر وعلم المجيب له ذلك، عرّفه. وإن لم يكن تصوّر معنى ذلك النوع أصلا ولاكان رأى شيئا من أشخاصه - كما يلحق كثيرا من الأمم أن لا يرى أحد منهم فيلا أصلا ولا جملا - اضطرّ المسؤول عند ذلك إلى أن يعرّفه بقول مشتمل على صفات يؤلَّف بعضها إلى بعض إلى أن تجتمع من جملة ما يؤلّفه صورة ذلك المسؤول عنه في نفس السائل، فيحصل في نفسه معنى مّا مركَّب عن صفات يُقرَن بعضها ببعض ويُفهم معنى الاسم ملخَّصا بأجزائه. غير أنّه قد يتّفق أن يكون ما تصوّره في نفسه من ذلك وفهمه عن الاسم معنى غير معلوم هل هو موجود أم لا، مثل ما لو لُخّص معنى الفيل عند مَن لم يشاهدهلأمكن أن لا يقع له التصديق بوجوده ولا يدري هل ما هو كذا وبهذه الصفات موجود أم لا. وقد يتّفق أن يكون ذلك قولا يُفهم ويُلخّص شيئا يمكن أن يُتصوَّر ولكن يكون غير موجود، مثل تماثيل الحمّامات التي يصوّرها المصوّرون، فإنّها معان تقوم صورها في النفس لكنّها غير موجودة. فتكون الأقاويل التي تُركَّب للدلالة عليها تدلّ على أشياء غير موجودة، ويكون كثير من هذا الصنف أقاويل تدلّ ما لا يُدرى هل هي موجودة أم لا. وأمثال هذه فليست حدودا إلاّ على جهة المسامحة والتجوّز، بل تُسمّى " الأقاويل التي تشرح الأسماء ". ولذلك تُستعمَل هذه الأقاويل في مبادئ الفحص عن الأمور المفردة في المطلوبات وعن الأمور التي يكفي في وجود قياساتها ما يُفهَم عن أسمائها منذ أوّل الأمر، وفي إبطال الأشياء التي ظنّ قوم من الناس أنّها موجودة - مثل الخلاء، فإنّه يجب أن يُفهَم ما معنى هذه اللفظةعند مَن يعتقد وجود الخلاء. وكذلك إذا فحص الإنسان هل القوّة المدبّرة في الدماغ أو لا، فإنّه ينبغي أن يلخّص بالقول ما معنى القوّة المدبّرة. وإذا فحصنا هل العالم كريّ الكلّ، فينبغي أن نلخّص القول ما معنى العالم. فإنّ هذه كلّها أقاويل تشرح الأسماء قد تُسمّى على التجوّز والاتّساع في العبارة حدودا. وإنّما يُلتمَس بهذه الأقاويل تحصيل معاني تلك الألفاظ متصوَّرة بأجزائها التي إذا أُلّفت حصل منها معنى معقول ملخَّص مشروح بأجزائه التي يصير بها معقولا متصوَّرا في النفس فقط. فتكون تلك الأجزاء بها قوامه من حيث هو معقول أو متصوَّر في النفس، إذ بها قوامه في النفس. فإذا تبيّن بعد ذلك أنّ المعنى المدلول عليه بذلك الاسم موجود، وأنّ تلك الأشياء التي بها قوامه معقولا في النفس أيضا بأعيانها خارج النفس، عاد ذلك الذي كان قولا يشرح المعنى فصار حدّا، إذ كانت تلك ماهيّته. وإن تبيّن أنّ ذلك غير موجود بقيت تلك الأجزاء التي بها قوامه في النفس فقط ولم يكن ما دلّ عليه ذلك القول ماهيّة شيء أصلا. وتلك الأشياء التي بها قوام الشيء من خارج النفس متى أُخذت من حيث هي معقولة ومن حيث هي معقول ذلك الشيء قيل فيه إنّه ماذا هو الشيء، ومتى أُخذت من حيث هي قوام ذلك الشيء من خارج قيل فيه إنّه بماذا هو الشيء. (170) وقد يُستعمَل حرف " ما " في مثل قولنا " ما ذلك الحيوان الذي يكون في الهند " و " ما النبات الذي يكون بلاد اليمن " و " ما الحجر الذي قيل إنّه ببلاد تهامة ". ومن هذا الصنف قولنا " ما لَكَ " و " ما حال زيد " و " ما خبر فلان " و " ما المال الذي عندك " و " ما الحيوان الذي ملكته ". فإنّ هذه كلّها أيضا يقترن فيها حرف " ما " بجنس الشيء، وذلك متى عُرف الشيء بجنسه ولم يُعرَف النوع الخصّ الذي هو منسوب إلى الذي أُخذ منسوبا إليه، فإنّه إنّما يكون إذا جُهل النوع ولم يُتصوَّر، وعُرف بجنسه الذي يعمّه وغيرَه، والتُمس أن يُتصوَّر ذات ذلك النوع خاصّة. فإنّ قولك " ما مالُك " يُعنى به ما النوع الذي تملك من المال. وكذلك " ما حالك "، فإنّه عُرف أنّ له نوعا من أنواع الحال ولم يُفهَم ذاته ولم يُتصوَّر فقيل " ما النوع الذي هو لك من أنواع الحال "، وكذلك " ما ذلك النبات الذي يكون باليمن " يُعنى به ما النوع الذي يكون خاصّة من أنواع النبات. (171) فهذه أربعة أمكنة يُستعمَل فيها حرف " ما " على جهة السؤال
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:54 am | |
| . ويعمّها كلّها أنّه يُطلَب بها معرفة ذات الشيء المسؤول عنه وأن يُتصوَّر ذاته وأن يُعقَل ذاته معقولة. ويعمّها أنّها كلّها ليس يمكن أن يُسأل عنها إلاّ وقد عُرف المسؤول عنه وتُصُوِّر مقدارا مّا من التصوّر أو عُقل إلى مقدار مّا، ويُلتمَس فيه أن يُعقَل أ كمل من ذلك المقدار وأن يُتصوَّر بمقدار أزيد من ذلك التصوّر من ذلك المحسوس المسؤول عنه بحرف " ما ". فإنّه إذا عُقل وتُصُوِّر أنّه " شيء " وأنّه " أسود " وأنّه " متحرّك " فقد تُصُوِّر بأبعد ما يمكن ان يُتصوَّر به الشيء وأنقصه. فإنّ " الشيء " هو أبعد ما يمكن أن يُتصوَّر به " الأسود "، وأنّه " أسود " فإنّه أبعد عرض يمكن أن يُتصوَّر به " المتحرّك " . وأنّه " متحرّك " فإنّه أيضا عرض بعيد من ذات المسؤول عنه. فإنّ القائل " ما ذلك المتحرّك " يسأل عن ذلك الشيء الذي يراه متحرّكا أو أسود. على أن معنى المتحرّك غير معنى ذلك الذي علامته في أبصارنا أنّه متحرّك. وقد يُسأل في مثل هذا المكان " ما الحيوان الذي نراه " و " ما الجسم الذي نلمسه "، فيكون مثل قولنا " ما ذلك الشيء الذي نراه " - غير أنّ " الشيء " هو أعمّ من " الحيوان " و " الحيوان " أخصّ من " الشيء " - فإنّ هذه كلّها إنّما تُصوّر الشيء بجنسه فقط. و مَن جهل ذلك المرئيّ فإمّا أن يجاب بنوعه من حيث يدلّ عليه اسمه أو من حيث يدلّ عليه حدّه. فالمسؤول عنه بحرف " ما " في هذين هو معروف لا محالة حين ما يُسأل عنه معرفةً أنقص، إمّا بجنسه الأبعد جدّا أو بجنسه الأقرب، أو ما يقوم في العموم مقام جنسه الأبعد أو بحال له خارج عن ذاته، مثل أنّه " متحرّك " أو أنّه " أسود " أو غير ذلك من أعراضه. وكذلك النوع المسؤول عنه، فإنّه عرف وتصوّر وعقل ما يدلّ عليه اسمه، وهو التصوّر المجمَل. و يكون عرف ذلك النوع بعلامة له ليست هي ذاته ولا جزء ذاته بل بعرض له لازم، فظنّ أنّ تلك الصفة أو الصفات التي عرفه بها هي التي إذا عُقلت تكون ذاته معقولة. مثل أن يكون " الإنسان " عنده معقول بشكل جسمه؛ ثمّ يرى أنّ الإنسان يتكلّم ويروّي ويعقل ويحوزالصنائع لا لشكل جسمه - إذ كان بعد أن يموت يكون شكل جسمه على حاله - ويرى أنّ تصوّره له بصفته هذه ليست كافية في أن يعقل ذاته، فيسأل حينئذ عنه " ما هو " فيلتمس بسؤاله أن يعقل ذاته، إذ كان ليس يرى أنّه عقل ذاته أو ذاته على التمام إذا عقل منه شكل جسمه. وكذلك في شيء شيء من سائر الأنواع إذا كان يعقل ما يدلّ عليه اسمه بعلامة أو صفة إذا تُعُقِّبت يتبيّن أنّها ليست هي كافية في أن تحصل ذاته بها معقولة، سأل حينئذ " ما هو ذلك النوع " فيجاب إمّا بجنسه وإمّا بحدّه فإذا أُجيب بما هو له حدّ لم يبقى بعدها لسؤال " ما هو " موضع أصلا. وكذلك متى جهل معنى لفظةما فسأل عنه ب"ماهو". فقد عرف أنّه " شيء " وتصوّره بأعمّ ما يمكن أن يُتصوَّر به الشيء ولم يكن تصوّره بصورته التي تخصّه، وهو نوع ذلك الشيء. فإذا أُجيب عنه باسم له آخر وبقول يُشرَح به معنى ذلك الاسم فقد بلغ ما التمسه. وكذلك " ما حالك يا فلان " و " ما حالك يا زيد " فإنّه مثل قولك " ما ذلك الحيوان الذي نراه ". فإنّه يكون قد عرف في كلّ هذا جنس ذلك الشيء وجهل نوعه. فإنّه إنّما يسأل عن نوع الحال التي هي حاله وعن نوع الحيوان الذي نراه. (172) واستعمال السؤال ليس إنّما يكون عند مخاطبة الإنسان الآخر، لكن عندما يروّي الإنسان فيما بينه وبين نفسه أيضا. فإنّه قد يسأل نفسه وهو نفسُه يُجيب عن شيء شيء من هذه فيما بينه وبين نفسه. وليس يلتمس أن يستفيد من تلقاء نفسه إلاّ ذلك العلم الذي كان يؤمل أن يستفيده من غيره إذا سأله عنه. (173) وكلّ إنسان إنّما يُجيب في الموضع الذي يمون سبيل الجواب فيه بالنوع أو بالجنس أو بالحدّ بالذي هو عنده نوع أو بالذي هو عنده جنس أو بالذي هو عنده حدّ. فإنّ النوع قد يكون نوعا على أنه يحاكي النوع من غير أن يكون نوعا فيأخذ الآخذ المحاكي للنوع أو للجنس أو للحدّ على أنّه في الحقيقة كذلك على مثال ما يأخذه الشعر، أو نوعاهو ببادئ الرأي نوع، أو نوعايتموّه أنّه نوع، أو نوعاهو في المشهور أنّه نوع، أو نوعاتبرهن أنّه نوع. وكذلك كلّ واحد من الباقين. وكلّ إنسان إنّما يُجيب في الموضع الذي سبيله أن يُجيب فيه بالجنس بالجنس الذي هو عنده جنس من الجهة التي بها صحّ عنده أنّه جنس، وفي الموضع الذي سبيله أن يُجيب فيه بالنوع إنّما يُجيب بالنوع الذي هو عنده نوع من الجهة التي بها صحّ عنده أنّه نوع، وفي الموضع الذي سبيله أن يُجيب فيه بالحدّ إنّما يُجيب بالقول الذي هو عنده حدّ من الجهة التي صحّ عنده بها أنّه حدّ. والجهات التي بها يصحَّح الشيء أنّه كذا وليس كذا تلك الجهات الخمس. (174) والذي هو بالمحاكاة جنس يأخذه كثير من الناس جنسا لأشياء كثيرة، مثل الظلمة والنور، فإنّ قوما يزعمون أنّ المادّة ظلمة مّا وأنّ العقل نور مّا وأنّ الملائكة أنوار. فإنّه لا يمتنع أن يكون شيء مّا عرضا في أمر، فيُظَنّ إمّا ببادئ الرأي وإمّا بتموّه الشيء به أنّه نوع له، حتّى إذا تُعُقِّب بالطرق البرهانيّة يتبيّن أنّه عرض له لا نوع له. وكذلك قد يكون القول رسما للشيء فيُظَنّ بهاتين الجهتين أنّه حدّ له، حتّى إذا تُعُقِّب بالطرق البرهانيّة يتبيّن أنّه ليس بحدّ له
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:56 am | |
| . (175) فلذلك متى صادفتَ ما قد يتبيّن عندك أنّه عرض لشيء مّا قد استعمله الجمهور أو بعض أهل الصنائع في الجواب عن " ما هو الشيء " فليس ينبغي أن تظنّ أنّ العرض عند الجمهور أو عندنا حدّ يُستعمَل في الجواب عن " ما هو الشيء "، لكن ينبغي أن تعلم أنّ ذلك إذا استعملتَه في الجواب عن " ما هو الشيء " استعملتَه على أنّه علامة للذات التي سبيلها أن تكون هي التي سُئل عنها بحرف " ما هو ". لا على أنّ ذلك العرض أو العلامة إذا عُقلت تكون ذاته قد عُقلت. لكن كثيراً مّا قد يعجز الإنسان عن أن يجد محمولا للمسؤول عنه إذا عّقل تكون قد عّقلت ذاته، فيُجيب بما قد علم أنّه ليس ذاته ليجعله علامة للشيء الذي إذا عُقل تكون قد عُقلت ذاته، فتكون قوّة جوابه " إنّ الذي ينبغي أن يكون هو الجواب عمّا سألتَ عنه هو أمر لا أعرفُه نفسَه ولا بأسمه ولكن أمر يوجد له نوع كذا من العرض أو يوصف بكذا من الأعراض " أو " إنّه أمر يخصهُ أنّه يوصف بعرض كذا " أو " إنّه أمر علامته كذا "،وهو نوع العرض الذي أخذه في الجواب عن " ما هو ذلك الشيء ". فعلى هذه الجهة يصلح أن يجاب بالذي هو عرض - وهو يعرف أنّه عرض - في جواب " ما هو الشيء "،و كان الذي يجاب به رسما أو عرضا مفردا. غير أنّ الرسم الذي إذا كان إنّما أُردفت الأعراض فيه بجنسه كان أقرب إلى الحدّ من أن يكون مأخوذا دون الجنس. (176) ولا يمتنع أن يكون أمرا مّا محمولا على شيء مّا ويليق أن يجاب به في جواب " ما هو " في ذلك الشيء، وهولا صفة لشي ءمّا آخر ولا يليق أن يجاب به في جواب " ما هو " في ذلك الشيء الآخر. فيكون جنسا أو نوعا أو حدّااو حد لشيء مّا هو عرض لشيء آخر. فيكون معرّفا لذات شيء مّا أو ماهيّته أو جزء ماهيّته، ومعرّفا من شيء آخر ما هو خارج عن ذاته وماهيّته. ولا يمتنع أيضا أن يكون أمر مّا يليق أن يجاب به في جواب " ما هو " في شيء مّا، ولا يكون محمولا على شيء آخر بجهة أخرى بل كلّ ما حُمل على شيء مّا فإنّه يُحمَل عليه على أنّه يليق أن يجاب به في جواب " ما هو " ذلك، ولا يكون صفة لشيء آخر أصلا. فما كان هكذا فإنّه إنّما يكون محمولا من طريق ماهو فقط من غير أن يكون محمولا على جهة أخرى، وهو المحمول بماهو على الإطلاق ومن كلّ الجهات، إذ كان ليس يُحمَل بجهة أخرى على شيء من طريق ماهو وعلى شيء آخر من طريق آخر، لا بما هو محمول بما هو على الإطلاق ولا من كلّ الجهات. والقدماء يسمّون المحمول على الشيء الذي إذا عُقل عُقل ذلك الشيء وذات ذلك الشيء " جوهر ذلك الشيء "، ويسمّون ماهيّة الشيء " جوهره "، وجزء ماهيّته " جزء جوهره "، والمعرّف لما هو الشيء " المعرّف بجوهره ". فما كان محمولا على شيء مّا بطريق ماهو وعلى شيء آخر ر بطريق ما هو يقال إنّه " جوهر لذلك الشيء " الذي إذا عُقل المحمول يكون قد عُقل و " معرّف بجوهره "، و " ليس بجوهر لذلك الشيء " الذي ليس يُحمل عليه من طريق ماهو ولا معرّفا بجوهره بل عرضا له. وما كان إنّما يُحمل أبدا على أيّ شيء ما يُحمَل بما هو ذلك الشيء، ولم يكن يُحمَل على شيء أصلا إلاّ بماهو، فإنّ ذلك المحمول بماهو بإطلاق ومن كلّ جهة، فهو جوهر كلّ شيء حُمل عليه ومعرّف بجوهر كلّ ما يُحمَل عليه، إذ ليست له جهة أخرى من الحمل إلاّ أنّه جوهر لكلّ مايُحمَل عليه. فسمّاه القدماء " الجوهر " على الإطلاق و " معرّفا للجوهر " على الإطلاق. وسمّوا تلك الأخر " جوهر البياض " و " معرّف بجوهر الحركة " وغير ذلك من التي ليست جواهر التي محمولاتها عليها لا بماهو ولا معرّفا لجواهرها. وليس يُعنى بالجوهر ههنا شيء غير المحمول على الشيء الذي إذا عُقل المحمول يكون قد عُقل الشيء نفسه. فما ليس له حَمْل على شيء إلاّ على هذه الجهة فهو الجوهر الذي على الإطلاق. وإن كان قد يوجد شيء محمول على أمر مّا لا بطريق ماهو، ولم يكن يُحما على أمر آخر بجهة ماهو أصلا بل كان حَمْله أبدا على أيّ شيء ما حُمل هو حَمْل لا بطريق ماهو، كان هو العرض على الإطلاق، وهو مقابل بالكلّيّة لما هو جوهر الإطلاق. وما كان يُحمَل بجهتين على موضوعين مختلفين فهو جوهر لأحد هذينالموضوعين وعرض للموضوع الآخر. (177) وليس ينبغي أن تخيّل إلى نفسك معنى الجوهر أنّه شبه شيء ثخين مكتَّل مصمَت أو صلب لأجل ما تسمعه من قوم قد اعتادوا أن يقولوا " إنه هو القائم بنفسه " و " قوامه بنفسه " وأشباه هذه العبارة التي تخيّل في الجوهر ما ليس هو الجوهرالمحمول الذي لا يُحمَل على موضوع أصلا إلاّ على طريق ماهو. فإنّ موضوعه أيضا إن كان يُحمَل على موضوع آخر دونه فليس يمكن أن يُحمَل عليه إلاّ بطريق ماهو. فإنّه إن أمكن أن يُحمَل على شيء مّا لا بطريق ماهو كان المحمول الأعمّ إذا عُقل كان معقول عرضٍ، فيكون محمولا بوجه مّا لا بماهو، وذلك غير ممكن
| |
|
| |
راهب الفكر
عدد المساهمات : 3096 تاريخ التسجيل : 22/11/2011 العمر : 45
| موضوع: رد: الفارابي - كتاب الحروف الثلاثاء مايو 01, 2012 9:57 am | |
| وموضوع موضوعه إن كان إنّما يُحمَل أيضا على موضوع فهو إنّما يُحمَل هذا الحَمْل، إلاّ أنّه لا يمضي في العمق هكذا إلى غير النهاية بل ينتهي، فإذا انتهى يكون الموضوع الأخير الذي لا يُحمَل على آخر دونه هذا الحمل أيضا على شيء آخر حملا لا على طريق طريق ماهو ذلك لا محالة. فإذن موضوعهما الأخير لا يُحمَل على شيء أصلا لا حَمْل ماهو ولا حَمْلا بغير طريق ماهو ولا يكون معرّفا لجوهر شيء غيره ولا جوهرا لغيره، لأنّه ليس إذا عُقل يكون عُقل موضوع له ولا يكون ذاتا مّا لغيره بل يكون ذاتا على الإطلاق ومحمولاته التي تُحمَل عليه من طريق ماهو ذوات له جواهر له. وإن كنّا نعني بالجوهر ذات الشيء ونفس الشيء، وكان هذا هو ذاتا لكن ليس بذات لغيره بل ذاتا لنفسه، كان جوهر بنفسه وكان هو الجوهر على الإطلاق. فإنّ معنى الجوهر ومعنى الذات ههنا واحد بعينه في العدد، ومحمولاته هي جواهر وذوات ومعرّفات لذات هذا وجوده. فيكون هذا جوهرا على اٌلإطلاق. وتلك كانت معقولات هذا كانت جواهر أيضا على الإطلاق. وتلك التي تنظر فيها العلوم، لا هذه. وهذه إذا أُخذت معقولات كانت تلك. وهذه هي التي يمكن أن يخيَّل فيها أنّها مكتَّلة ثخينة مصمَتة. و ليس ينبغي أن تُخيّل هذه في هذا الجوهر. فإنّ ما يُتخيَّل بذا وشبهه ليس هو الجوهر، بل ينبغي أن يُجعَل معنى الجوهر هو الذي حدّدناه وتُجعَل علامته التي عرّفناه بها. (178) والسبب في هذا التخيُّل أذهاننا وأذكارنا الصامتة، كأنّا إذا لم يدافع لَمْسَنا جسم مّا بل كان سهل الاندفاع والانحراف وهوانا لنا حين ما نرجمه، هان علينا أمر وجوده، وخاصّة إن اجتمع مع ذلك أن ل***دّ شعاع أبصارنا، فإنّه يهون علينا حتّى نظنّ به أنّه غير موجود. فلذلك صرنا نقول فيما لا وجود له " إنّه هباء " و " إنّه ريح ". وكلّ ما يدافع ويقاوم مَن يرجمه وكان مع ذلك لا تنفذ فيه شعاعات أبصارنا كان هو الموجود والوثيق الوجود. فلذلك لمّا كان الحقّ هو أوثق الموجودات وجودا صاروا يتخيّلونه بما هو وثيق الوجود عندهم من الأجسام، وهو المصمَت الكثير الصلب. ولذلك اعتادوا أن يسمّوه " الحامل لكلّ شيء " كأنّه يحمل ما يحمل أثقالا تعتليه فينهض بها وهو غير محمول على شيء؛ و " الصلب " فإنّ اسم الجوهر عند الجمهور إنّما يقع على حجارة مّا من المادّة النفيسة، والحجارة بهذه الصفات التي يصير بها الجسم عندهم وثيق الوجود، فيتخيّلون فيه ماهو موجود في المشارك له في الاسم. وكلّ هذه خيالات فاسدة مغلطة عليك أن تحذرها وتصوَّر الجوهر في نفسك. (179) والمحمول على موضوع مّا بطريق ماهو وعلى موضوع آخر لا بطريق ماهو، إن كان موضوعه الذي يُحمَل عليه من طريق ماهو كان يُحمَل أيضا على موضوع دونه بطريق ماهو، فإنّ ذلك الموضوع يُحمَل على شيء آخر لا بطريق ماهو، لأنّه إن لم يكن كذلك كان محمولا معقول مّا ليس بعرض، فيكون جوهرا على الإطلاق، وذلك محال. وإن كان موضوع هذا الموضوع يُحمَل أيضا على شيء دونه بطريق ماهو، فإنّه يكون محمولا أيضا على شيء مّا آخر لا بطريق ماهو، إلى أن ينتهي على هذا الترتيب إلى الموضوع الذي لا يُحمَل على شيء دونه أصلا بطريق ماهو. فيبين في العميق أيضاالى أنّ ذلك الذي ينتهي في العمق لا يمكن أن يكون محمولا على شيء بطريق ماهو. فيكون ذلك عرضا بالإطلاق، إذ كان محمولا ولم يكن له حَمْل مّا على موضوع أصلا بطريق ماهو. وإن كان موضوعه الذي يُحمَل عليه لا بطريق ماهو أمرا لا يُحمَل على موضوع أصلا ولا بوجه من الوجهين، فقد تناهى في العرض وانتهى إلى الجوهر على الإطلاق. وإن كان أمرا يُحمَل على موضوع، وكان أيّ موضوع حُمل عليه حُمل عليه بطريق ماهو، فقد تناهى أيضا إلى الجوهر المحمول على جوهر آخر، الذي ينتهي في آخر الأمر إلى الموضوع الأخير. وإن كان أمرا يُحمَل على موضوع مّا بطريق ماهو، وعلى أمر آخر لا بطريق ماهو كانت الحال فيه تلك الحال بعينها إلى أن ينتهي في العمق إلى العرض الذي لا يُحمَل على شيء دونه حَمْل ماهو، بل يُحمَل لا بطريق ماهو. وليس يمكن ذلك أو تكون تلك الموضوعات موضوعات مّا إذا عُقلت يكون معقولها ذلك الأوّل، فيعود الأمر ويصير ذلك محمولا على هذه بطريق ماهو، ولا سبيل إلى ذلك. فإذن لا يمكن أن يكون ذلك موجودا لموضوع يُحمَل أصلا على شيء حَمْل ماهو. فإن كان ذلك الشيء يُحمَل لا من طريق ماهو على شيء مّا، فإنّ ذلك الشيء أيضا تكون حاله هذه في أنّه لا يمكن أن يُحمَل على شيء أصلا بحَمْل ماهو، بل إن كان ولا بدّ يُحمَل لا من طريق ماهو، إلى أن ينتهي عى هذا الترتيب إلى موضوع لا يمكن أن يُحمَل حَمْلا أصلا لا بطريق ماهو ولا حَمْلا لا بطريق ماهو. فينتهي إذن إلى الجوهر على الإطلاق. فيكون ذلك موضوعا أخيرالكلّ ما يُحمَل عليه لا من طريق ماهو ولكلّ ما يُحمَللا من طريق ماهو. (180) وإذا تأمّلنا المسؤول عنه بحرف " ما " على القصد الأوّل وجدناه الموضوع الأخير الذي وجدناه بالسياق القول بعضه إلى بعض. وذلك أنّا إذا قلنا " ما هذا المرئيّ " و" ما ذاك الذي نراه يتحرّك " و " الذي نراه أسود "، فإنّا نعتقد في كلّ شيء نحسّه فيه أنّه ليس يعرّف ذات المسؤول عنه
| |
|
| |
| الفارابي - كتاب الحروف | |
|