من المسلَّمات في الدراسات التاريخية، وفي الواقع البشري أن للتاريخ دوراتٍ، تتداول فيها الأمم قيادة البشرية، وهذا التداول الذي يتم بإرادة إلهية يدفع الله
به الفساد عن الناس؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. كما قد ينتج عن هذا التداول والتدافع أضرارٌ للبعض، فهناك -دائمًا- قويٌّ منتصرٌ يجني ثمار جهده، كما أن هناك ضعيفًا خاسرًا يقع تحت سلطان القوي.
شهادة التاريخ على سنة التداول
وقد كان التاريخ -دائمًا- شاهدًا على هذا التداول، فكان شاهدًا على نفوذ وجبروت المصريين القدماء ثم نهايتهم على أيدي البطالمة. كما شهد التاريخ عُلُوَّ الرومان وطغيانهم، وتجبرهم في الأرض ومعاناة الناس من قسوتهم وجبروتهم. كذلك شهد التاريخ نفس الأمر بالنسبة للدولة الفارسية حتى جاء الإسلام والمسلمون فأزالوا الطغيان الرومي والفارسي، وأشرق نور العدل على البشرية، وعرف البشر معنى المساواة، وتذوقوا معاني جديدة لم يتذوقوها من قبلُ، وطرقت أسماعَهم ألفاظٌ لم يألفوها كالرحمة والعدل والحرية والشورى.
وظل المسلمون في المقدمة حتى تخلوا عن المنهج الرباني، فكان لزامًا أن تُطَبَّق عليهم السُّنَّة الإلهيَّة في التداول والتدافع، فكان أن سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية وتمزقت، وتفرَّق المسلمون أياديَ سَبَأ، وورثت بريطانيا وفرنسا ميراث الخلافة الإسلامية، وأصبحتا القوتين العظميين، حتى من قبل سقوط الخلافة بعشرات السنين، وذلك إبَّان ضعفها.
وجرت هذه السُّنة -سُنة التداول بين الأمم- على بريطانيا وفرنسا كما جرت على غيرهما من المسلمين وغير المسلمين، فجاءت الحرب العالمية الثانية، وظهر الوارثان الجديدان: أمريكا والاتحاد السوفيتي، فعاثا في الأرض فسادًا، وملآها رعبًا، ولم يتعلَّما من كل تجارب التاريخ، فجرت السُّنة على الاتحاد السوفيتي وسقط، وجاء دور الولايات المتحدة التي كلَّما مرت السنون تهاوتْ، وكلَّما شعرت بالأرض تميد تحت قدميها، حاولت التغطية على ضعفها بمزيد من التجبر والطغيان.
التهاوي الأمريكي والأخطبوط الصيني
إنه من بَدَهِيات القول أن أمريكا تتهاوى وتترنح، والسنة الإلهية في التداول واقعة عليها لا محالة، ولكنْ مَنِ العملاق الذي يبدو في الصورة الآن ينمو ويكبر ويتحدى، ويزيد من إمكانياته، وقوته ليحتل الصورة كاملة عقب سقوط الولايات المتحدة الوشيك؟
إنه الصين.. نعم لقد أعدَّت الصين نفسها جيدًا، حتى تقوم بذلك الدور، وتستعصي على محاولات أمريكا إقصاءها، لقد مدَّ الأخطبوط الصيني أذرعه في مختلف بلاد العالم عن طريق منتجاته المتنوعة حتى أضحت الصين من أقوى دول العالم اقتصاديًّا، بل هي الأولى من حيث النمو بمعدلات غير مسبوقة.
ولكن الصين لم تكتفِ بالقوة الاقتصادية الكاسحة، فهي تسعى للعب الدور الأول عالميًّا، وتريد أن تكون القطب الأعظم إن لم يكن الأوحد؛ لذا كان من الطبيعي أن تسعى لتنمية وتضخيم قواها العسكرية، وهذا ما كان!
فقد قرأنا منذ أيامٍ أنَّ الصين قد زادت ميزانيتها العسكرية لهذا العام بنسبة 18% تقريبًا، ليصبح حجم الإنفاق العسكري الصيني 45 مليار دولار في العام الجاري، وهذه الزيادة تعني أن الصين تخطو خطواتها الأخيرة نحو استغلال ترنُّح الولايات المتحدة الأمريكية، وقرب سقوطها؛ لتحتل مكان الصدارة والرِّيادة في المستقبل القريب.
الخمول الإسلامي واستمرار المعاناة
هذه هي الصورة بالنسبة إلى الصين، فما حقيقة الصورة بالنسبة لنا نحن المسلمين؟
إن حالة الخمول التي يعيشها الكثير من المسلمين تعني أننا قد نكون بصدد استمرار المعاناة والمهانة والضغوط في المرحلة القادمة؛ لأننا لم نقم بما يجب علينا أن نقوم به، لم نقم بما قامت به الصين من إعدادٍ للقوة بمختلف أنواعها، ولم نرجع في ذات الوقت إلى مصدر قوتنا وعزتنا: الإسلام دين الله
، وتعاليمه وأخلاقه التي تدعو إلى قيادة البشرية وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رَبِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة، كما تدعو المسلمين إلى الإمساك بأَزِمَّة التقدم في كل المجالات. فنحن ما زلنا نُرَاوِح مكاننا، ولو شئنا لكُنَّا الآن في المكانة السامقة، ندقُّ بأيدينا أبواب المستقبل، وننتزع مقعد القيادة من قوى الشرق والغرب عن جدارة واستحقاق.. فهل نفعل؟!!