الرد :
إذا تدبرنا القرآن في كلامه عن الوالدين والآباء
والاسلاف ، نجد أن الله أمر بشكر الوالدين بعد شكر الله ، و أمر برحمتهما خصوصا
اذا اضعفهما الكبر او المرض او الاعاقة ، و نهى عن رفع الصوت عليهما و نهرِهما او
التضجر منهما ، لكنه لم يأمر بطاعتهما في كل أمر ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق ، بل قال (و إن جاهداك ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، و صاحبهما
في الدينا معروفا) .. و لم يأمر بحبهما على كل حال ، فالله لم يأمرنا بعبادة
الوالدين ، لكن أن نقدر حقهما و نشكرهما على ما قدّما ، و الشكر ليس بالكلام فقط ،
والشكر من الاخلاق ..
أما مشاعر الإنسان فليست بيده و تحت تصرفه ، ولو
كانت كذلك لضاع الانسان و ضاعت الحقيقة والفضيلة ..
المشاعر مرتبطة بالفضيلة اينما وجدت ، عند
الوالدين او عند غيرهما ، مثل ارتباط البوصلة بجهة الشمال ، بدليل اننا نجد من
يفضل امه على ابيه ، و العكس ، اقصد بمشاعره ، او يحب شخصا آخر اكثر من والديه ، و
ليس الامر بيده .. تخيلي ان احدا يأمره والده او والدته بمعصية و عمل غير انساني
ولا اخلاقي ، فهل يحبه و هو على هذه الحال ؟ ان كان يحبه فقد احب المعصية ووقع في
غضب الله ..
الوالدان من البشر و ليسوا من الملائكة ، و هما
داخلان في اختبار الخير و الشر ، مثل الابناء ، و بالتالي فقد يقعان في الشر او
يعملان الخير ، بل واجب الابناء النصح للوالدين على بعض الافكار الخاطئة التي قد
يتمسكون بها ، مثلما هو واجب الآباء ، ولا يعتبر هذا تطاولا عليهما بل حق لهما ،
بعبارة اخرى : حقهما كوالدين قدّما المعروف لنا ، والفضل للمتقدم ، و هذا يجب ان
يستمر في كل الاحوال ، حتى لو دعونا إلى الشرك .. فلا يجب ان نقول لهم اف
ولاننهرهما ، ونصاحبهما في الدنيا معروفا ، و لو كانوا اكفر الناس .. لكن الحب ليس
بأيدينا ..
و كلام الطالبة اذن ليس عاريا من الصحة بشكل
دائم ، لان كلمة حب ، هدفها الاساسي ان توصل الى الله ، لان الفضيلة توصل الى الله
و الحب مبني على الفضيلة ..
كذلك في خضم الدعوة لبر الوالدين ، يجب ان تقدم
نصيحة للوالدين ، بألا يستغلا النصوص ويجعلون منها صوطا يلهبون بها ظهور ابناءهم و
يلغون بها شخصياتهم و كرامة ذواتهم .. فالإنسان عبد لله في الاصل وليس عبدا
لوالديه تتحكم فيه غريزة التملك لديهما ، فالوالدان وسيلة لوجوده على الدنيا .
كثير من الوالدين يعتبرون ان حق الابناء هو
رعاية اجسامهم و تغذيتهم و علاجهم و سكنهم وانتهى الامر ، وهذا غير صحيح ، للابناء
حق الرعاية و التربية الشعورية واحترام آدميتهم ..
يجب ان يشعر الابناء بمحبة والديهم لهم حتى
يحبوهم ، و لا يعاملوهم بفوقية ، فالعطاء المادي ردّه عطاء مادي مثله ، و العطاء
المعنوي هو الذي يستوجب العطاء المعنوي .. و لا يفيد العطاء المادي الا اذا كان
دافعه معنويا .. فيعطي مقابلا ماديا و معنويا .. حينها تتحقق الابوة والامومة ،
ماديا ومعنويا .. والله أمرنا بالبر ولم يأمرنا بالتقديس ..
و كثرة ترديد ماقدموه لأبناءهم ، يُشعر الابناء
بمنة المعطي و كأنهم يستكثرون ما قدموا و يستخسرونه على فلذات اكبادهم ، بل ان بعض
الامهات أو الآباء يشترط من مهر ابنته لقاء ما انفق عليها ، و كأن آلام المخاض والتربية
لها سعر مادي ، بينما الله يقول (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) ، و بعض الآباء
يستغلون قدرهم عند ابنائهم و ضعفهم و وقوف المجتمع مع الوالدين ، فيستغلون ذلك و يتدخلون
في اختياراتهم ، بل و يسيئون اليهم لحد الإهانة أحيانا ، و الويل لمن يغضب او يثور
، لأنه سيوصم بالعقوق و يـُدعى عليه دعوة مستجابة ..
على الوالدين ان يعرفا ما قدما ، و ينتظرا مثله
من رعاية و حنان و اهتمام و انفاق ، ولا ينتظروا اكثر من ذلك الا ما كانوا
يستحقونه بصفتهم الشخصية لا بصفتهم والدين .. كالأب المتفهم لأبنائه ، سيحبوه حتى
لو كان شخصا آخر .. فأساس العلاقة هو رد المعروف ، و على حسب ذلك المعروف يتوجب
الرد .. وهو حق أخلاقي ، و الدين أخلاق .
الاطفال ضعاف و بحاجة الى رعاية الوالدين ، ولا
يجوز التفريط بذلك ، كذلك الوالدان عندما يضعفان يتوجب ان يرد الإحسان إليهما ،
قال تعالى (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ..
المسألة مسألة حق و رد ذلك الحق ، هذه هي
العلاقة بين الآباء والابناء ، و ليست حالة امتلاك وعبودية و سيطرة و برمجة ، او
استغلال مادي لغير حاجة .. كبعض حال الامهات التي تعتبر ابنائها ملكا لها تتصرف
بهم كما تريد كالدمى ، و تذكر دائما لأولادها فضل البر ، والبر لا ياتي بالمطالبة
، لأنه عمل اخلاقي وليس حقوقي ومادي ، لأن الشخص الأخلاقي الذي قدم لك معروفا ،
ليس من اللائق ان يطالبك بشكره ، بل أنت الذي تطالب نفسك بنفسك ، بدافع من ضميرك
وأخلاقك ..
أما ما بين ذلك فيبقى دور الاخلاق و الفضيلة ،
كلما تمتع بها الوالدان كلما حظيا بمحبة أكبر من الابناء