الجامع الأموي الكبير بدمشق
المهندس عماد سعد
الأرض المقدسة – معبد حدد:
“في البقعة التي يقام عليها المسجد الكبير في دمشق، كان عدد من المعابد المتعاقبة أولها معبد
( آداد ) حدد، وهو إله الآراميين سكان دمشق الأوائل في القرن العاشر قبل الميلاد. وهو إله العاصفة والخصب. لم يبقَ من آثار هذا المعبد إلاّ لوح من الحجر البازلتي الأسود، نُقش عليه أسدٌ مجنح (سفينكوس)، وهو محفوظ في المتحف الوطني بدمشق” (
أبعاده 380 سم × 300 سم.
معبد جوبيتر الدمشقي:
“على أنقاض معبد حدد القديم، وتبعاً لقاعدة الاستمرار أنشئ في العهد الروماني معبد جوبيتر الدمشقي المؤلف من المنشآت التالية:1- الهيكل أو السيلا أو الناوس، وهو المعبد الأساسي أو قدس الأقداس.
2- التيمينوس وهو ساحة تحيط بالمعبد المقدس بطول 136 م وعرض 97 م. من الشرق إلى الغرب محاطة بجدار يلاصقه رواق محمول على أعمدة.
3- البيريبول وهو ساحة أخرى تحيط بالتيمينوس بطول 380 × 310 م. من الشرق الى الغرب يحده سور خارجي وأروقة داخلية.
ومن الآثار المتبقية أعمدة وأطناف في الجهة الغربية (باب البريد) وفي الجهة الشرقية (باب جيرون) وفي الجهة الشمالية (الكلاسة)، أما المعبد فإن الجدران الخارجية القائمة حتى اليوم من مخلفات المعبد الروماني وهي الجدار الجنوبي الذي ينفتح في وسطه الباب الرئيسي الثلاثي الفتحات يعلوه طنف ويحيطه إطار مزخرف جميل مازال بحالة جيدة حتى يومنا هذا”.(9)
الكنيسة ومقرها هيكل المعبد:
“في هذا المكان المقدس المؤلف من جدران وأروقة آبدة، كان لابد أن يقيم المسيحيون كنيسة لهم مستفيدين من المنشآت المتبقية من العهد الروماني. ومن المعروف أن تيودوسيوس استعمل هذا البناء ككنيسة مسيحية في عام 379 م تحت اسم كنيسة القديس يوحنا المعمدان”. (10) “وتوجد كتابة يونانية منقوشة على عتبة باب السور الجنوبي (باب الزيادة) مؤداها: ملكك أيها المسيح ملك كل الدهور، وسلطانك في كل دور فدور”. (11)
“ظل المسلمون بعد فتح سوريا (14 هـ – 635 م) بنحو من نصف قرن يقيمون الصلاة في بيوتهم وفي كنائسهم، ولم يعمدوا في هذه الأثناء إلى بناء مسجد ما”. (12) إن عدم بناء أي مسجد خلال نصف قرن والخلافة الأموية في عز ازدهارها له أكثر من مدلول:
أ- إن المسلمين في سوريا (بلاد الشام) بعد قرن من الدعوة (أي أواسط العهد الأموي) كان عددهم 200 ألف نسمة، من أصل 3.5 مليون نسمة” (13) ، أي بنسبة %6 من مجموع السكان العام.
ب- إن الإطار العام للرسالة المحمدية والمسيحية في بدايتهما كان على درجة كبيرة من التوافق الفكري والطقسي، مما لم يضطر خلفاء بني أمية لبناء جامع خاص باسمهم إلا بعد 45 سنة من الحكم. بعض الخلفاء كان يشارك المسيحيين أعيادهم في الكنيسة.
جـ- انصراف المسلمين لنشر الدين الجديد عن طريق الفتوحات.
إذاً بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام 14 هـ / 635 م اقتسم المسلمون هذا المعبد الكبير مع المسيحيين فأقاموا مسجدهم.
“وبقي المسلمون والمسيحيون يؤدون فرائض دينهم متجاورين حوالي سبعين عاماً حتى عام 86هـ / 705 م. حين تسلّم سدة الخلافة الأموية الوليد بن عبد الملك حيث جرت مفاوضات مع المسيحيين لكي يتنازلوا بالعدل والرضا والطرق المشروعة عن نصف المعبد الذي أقاموا عليه كنيستهم، وتم ذلك مقابل بناء كنائس جديدة في أماكن مختلفة من مدينة دمشق”.(14)
يقول ياقوت الحموي (المتوفي سنة 626 هـ / 1229 م) في كتابه معجم البلدان:
“قالوا عجائب الدنيا أربع: قنطرة سنجة، ومنارة الإسكندرية، وكنيسة الرها، ومسجد دمشق. وكان قد بناه الوليد عبد الملك بن مروان، وكان ذا همة في عمارة المساجد، وكان الابتداء بعمارته في سنة 87 وقيل 88 هـ. ولما أراد بناءه جمع نصارى دمشق وقال لهم:
إنا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم، يعني كنيسة يوحنا، ونعطيكم كنيسة حيث شئتم، وإن شئتم أضعفنا لكم الثمن، فأبوا وجاءوا بكتاب خالد بن الوليد والعهد وقالوا: إنا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلا خنق، فقال لهم الوليد: فأنا أول من يهدمها” (15)
ويقول خالد بن الوليد في كتابه إلى أسقف دمشق (استناداً للعهدة العمرية): “بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا تهدم ولا يسكن شيء من دورهم. لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية” (16) “وكانت هناك حاجة ملحة لإقامة جامع كبير يليق بعظمة الدولة ويلائم حالة التطور الذي بلغه المجتمع العربي الإسلامي، فلقد غدت دمشق في عهد الوليد عاصمة لأعظم دولة عربية في التاريخ” (17)
قام الوليد بهدم كل مكان داخل جدران المعبد من منشآت رومانية وبيزنطية ثم شيد الجامع وفــق مخطط جديد مبتكر. يحمل في طياته خلاصة العمارة السورية المتطورة في ذلك الحين. بدءاً من اعتماده على القناطر المضاعفة التي تحمل السقف وتشكل الأجنحة الطولية والعرضية، والأروقة المحيطة بالصحن مثل معبد بل في تدمر، إلى استعماله الفسيفساء في تزيين معظم المساحات الظاهرة. هذا الفن له امتداد في الحضارة السورية تخصيصاً بدءاً من السومريين إلى البابليين إلى الحقبة السلوقية والبيزنطية.
المهم أن الوليد قضى في بناء الجامع قرابة عشرة أعوام، ولم يضنه الجهد ولا المال لكي يكون جامع آية في الفن المعماري .