د. علي الصلابي
إن من نعم الله على هذه الأمة وتشريفه لها أن جعلها أمة وسطًا خيارًا عدولاً فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. فهي خير الأمم التي أُخرجت للناس، وقد وصفها المولى U وشهد لها بذلك فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
ثم اصطفى الله I لها رسولاً من خيارها وأوسطها نسبًا ومكانة، فبعثه فيها نبيًّا رسولاً {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وأنزل عليها أشرف كتبه وجعله مهيمنًا على الكتب قبله، شاملاً لخير ما جاءت به {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
بهذا الرسول الكريم، وهذا القرآن الكريم، شرفت هذه الأمة وبمتابعتهما والاهتداء بهديهما، كانت خير الأمم وأوسطها وأعدلها، ثم كان أسعد هذه الأمة باتباعهما وأحرصهم على هديهما قولاً وعملاً واعتقادًا أصحاب رسول الله r ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها النبي r بالخيرية، قال رسولُ الله r: "خيرُ أمَّتي قَرني، ثمَّ الذين يَلونهم، ثمَّ الذين يَلونهم".
فهؤلاء هم خيار هذه الأمة، ثم يلحق بهم كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدى والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله r في كل زمان ومكان؛ فهؤلاء جميعًا خيار هذه الأمة وأوسطها وأعدلها؛ فإنه بعد انتقال رسول الله r إلى جوار ربه، ومضى عصر الخلافة الراشدة بدأ في آخر عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t ظهور التفرق والاختلاف؛ فخرجت الخوارج ببدعها، وظهرت الشيعة بغلوها وفتنها، ثم توالى ظهور البدع، وتكوّنت الفرق، وتوارثت الأجيال الكثير من الانحرافات العقدية والسلوكية وغيرها، وابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذي رسمه القرآن الكريم ومارسه في الحياة سيد المرسلين.
إن المتدبر في الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم يرى فرقًا شاسعًا في أهدافها واختلافًا في منطلقاتها وغاياتها وفي مشاربها, يرى الإفراط والتفريط والغلوّ والجفاء والإسراف والتغيّر في عموم الأمة، فإذا انتقلنا إلى حال الدعاة والمصلحين الذين أقضّ مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمتهم، فإنهم شرعوا في البحث عن طريق العلاج ومعرفة أسباب النجاة، والتمسك بها لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، نجد تأثير واقع الأمة على وضعهم: فمنهم المشرّق، ومنهم المغرّب، ترى المفرّط والمُفْرط، نرى بين هؤلاء الدعاة من غالى وأفرط في الغلوّ وعادت أفكار الخوارج القديمة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين وأصول العقيدة؛ حرصًا على جمع الناس دون تزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة، فضاعت معالم التوحيد وحقيقة العبادة.
وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الأثر وتصحّح المنهج وتقود الناس إلى الصّراط المستقيم على منهج أهل السنة والجماعة، وسلف الأمة ينفون عن هذا الدين غلوّ الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المرجفين الزائفين، ووسط هذا الواقع المؤلم والاضطراب المهلك تشتد الحاجة إلى إرشاد الأمة إلى الصراط المستقيم والمنهج الوسط القويم لإنقاذها من كبوتها، وإنقاذها من رقدتها، وتذكير الدعاة والمصلحين بالمنهج الحق، والطريق البيّن الواضح {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153].
إن الأمة بأمسّ الحاجة إلى منهج الوسطية منقذًا لها من هذا الانحراف الذي جلب عليها الرزايا والمصائب والنكبات، ولقد وجدت أن القرآن الكريم قد رسم لنا هذا المنهج في جميع جوانبه؛ أصولاً وفروعًا وعقيدة وعبادة وخلقًا وسلوكًا وتصورًا وعملاً.
ولقد جاء منهج الوسطية من خلال القرآن الكريم في أساليب عدة تصريحًا وإيماء، مفصلاً ومجملاً، خبرًا وإنشاء وأمرًا ونهيًا.
فبيّن القرآن الكريم أن للوسطية أسسًا لا بد للداعية من معرفتها، فمنها الغلوّ والإفراط، والجفاء أو التفريط، والصراط المستقيم.
فإن من أراد أن يعرف الوسطيّة على الوجه الدقيق فلا بد له من استيعاب الأسس التي ذكرناها، فالصراط المستقيم هو وسط بين الغلو والجفاء أو الإفراط والتفريط، كما يمثل الخيرية ويحقق معناها، وبذلك يتحقق في الصراط المستقيم أمران من لوازم الوسطية وهما: الخيرية والبينية. كما بيّن القرآن الكريم أن للوسطية ملامح وسمات تحف بها، وتميّزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بإفرادها. وقد طالعت ما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطية، ومن خلال استقراء القرآن الكريم فتوصلت إلى تحديد سمات وملامح للوسطية.
وتحديد هذه الملامح مهمة أساسية للمسلم الداعية، حتى لا تكون الوسطيّة مجالاً لأرباب الشهوات وأصحاب الأهواء؛ ذلك أن الوسطيّة مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم، جعلها الله خاصية من خصائصها تكرّمًا منه وفضلاً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
إن من أهمّ ملامح الوسطية وسماتها:
1- السمة الأولى: الخيرية.
2- السمة الثانية: العدل.
3- السمة الثالثة: اليسر ورفع الحرج.
4- السمة الرابعة: الحكمة.
5- السمة الخامسة: الاستقامة.
6- السمة السادسة: البينية.
وكل سمة من هذه السمات يدخل تحتها عدد من أفرادها، ولكل سمة ما يلائمها، ويفي بغرضها. ومعرفة هذه الملامح والسمات تعين الداعية على ضبط وتحديد معنى الوسطية ومعرفتها.
تجاوز القدر